لكن هناك أيضاً من يعمدون إلى إضاعة الوقت في ما يضر ولا ينفع، وهذا وارد. أما عندما يتم استخدام وسائل إهدار الوقت في الإساءة إلى الإنسان والوطن، فهذا أمر يستحق التفكر.
فمستقبل الكوكب بعد وباء كورونا ينبئ بالرقمنة الكاملة.
وبالتأكيد، لسوف تكون شبكات الجيل الخامس من الإنترنت حتمية الوجود، على الرغم من المعارضة المبدئية على إقامتها على أيد صينية؛ لأن الصين هي من طور تلك الشبكات بطريقة سبقت العالم الغربي بأكمله، في طور استعدادها لتصير القوة المهيمنة على العالم.
وفي ما يبدو أن الصين كما سبقت كبرى دول العالم في تطوير تكنولوجيا الجيل الخامس، فإنها أيضاً قد سبقته في الترتيب لتنصيبها دولة عظمى مهيمنة معرفياً، متبعة المقولة الشهيرة «المعرفة قوة» التي أطلقها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
وتلك المعرفة مصدرها القدرة على الولوج لأي مؤسسة، أو أي فرد في العالم من خلال توصيل شبكات الجيل الخامس لجميع المصالح، والهيئات والأفراد.
وإلى أن يحين ذاك الوقت، وجدت الصين أن التمهيد لغزو العالم، يتطلب أولاً غزو عقول شعوب العالم، من خلال جمع معلومات كافية للتعرف إلى حالتهم النفسية والمزاجية.
ولهذا السبب، تنتشر مؤخراً تطبيقات تصدّرها الصين للعالم. والمراد من تلك التطبيقات ليس التسلية أو التسوق، كما يبدو ظاهرياً، لكن الولوج إلى وامتلاك بيانات المستخدمين التي توضح الدول التي ينتمون إليها، وفئاتهم العمرية.
وكانت أخطر تلك التطبيقات جميعا «التيك توك» Tik Tok الذي صارت له شعبية عالمية في وقت قصير فور ظهوره. ومؤخراً، انتشر كالنار في الهشيم، بعد تفشي وباء كورونا، بعد ما وجد سكان كوكب الأرض أنفسهم في حالة من القلق والشعور بالملل، لا نهاية لها. وقد انتشر استخدام «التيك توك» بين جميع الفئات العمرية، والطبقات الاجتماعية والثقافية على حدٍ سواء.
وكما يعلم الكثيرون، مقاطع التيك توك ذات أسلوب غنائي، أو موسيقي، أو كوميدي، يعتمد على تزامن تحريك الشفاه مع المحتوى، ويستغرق المقطع 3 – 15 ثانية فقط،، أو قد يكون المقطع تسجيلاً لمحتوى يبتكره مقدم المقطع، فتمتد مدته حينئذٍ 3- 60 ثانية. وهذا التطبيق الذي نشأ في الصين، تم إطلاقه في الأسواق على شكل نسختين.
فهناك نسخة تم إطلاقها في الصين منذ سبتمبر/أيلول 2016 تحت اسم «دوي إن» Douyin، وأطلق في الولايات المتحدة وباقي دول العالم منذ 2 أغسطس/آب 2018 تحت اسم «تيك توك» Tik Tok، مع العلم بأن التطبيقين متطابقان تماماً. لكن تم فصلهما ـ كما تروي الصين – لاختلاف نوع الخادم Server، نظراً للتشديدات الأمنية والقيود التي تفرضها الصين على مستخدمي الإنترنت.
وبحلول عام 2019 قفز «التيك توك» لمركز سابع أكثر تطبيقا وتحميلاً في العالم. وأما بعد تفشي وباء كورونا، ازدادت شعبيته أكثر، لدرجة أن أدمنته جميع الفئات العمرية وجميع الطبقات، بدون خجل، لكونه طريقة تسلية مبتكرة، تعتمد على كيفية إخراج المشاهد والأغاني، من وجهة نظر مقدم المقطع.
وتطبيق «التيك توك» الذي صدّرته الصين، لجميع دول العالم، في خمس وسبعين لغة دفعة واحدة ـ حتى تتأكد من وصوله لجميع بقاع الأرض ـ ليس مجرد وسيلة تسلية بريئة طفولية النوايا، لكنه تطبيق استخباراتي يعمل على تحليل بيانات المستخدمين تحليلاً وافياً، من حيث النوع والفئة العمرية، والاهتمامات والاتجاهات السلوكية.
وكذلك يمنح نفسه الحق لاختراق بيانات الأجهزة الذكية التي تم تحميله عليها، فهو بمثابة جهاز تتبع ومحلل نفسي للمستخدم؛ فالتطبيق قائم على الذكاء الاصطناعي. ويجب التشديد على أن فضيحة الفيسبوك أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية كانت بسبب بيع بيانات المستخدمين لشركة أنالاتيكا Analatica.
لكن في حالة تطبيق «التيك توك»، فإنه يتم إهداء هذه المعلومات لدولة الصين؛ تلك الدولة التي تفرض قيوداً صارمة على أبناء الوطن من مستخدمي الإنترنت، لدرجة أنها قامت بتطوير نسخة مماثلة من كل تطبيق مستخدم عالمياً، ليستخدم خصيصاً داخل الصين، وقد سبقت الإشارة آنفاً، إلى أنه تم تصدير تطبيق «دوي إن» Douyin في الصين، وهو النسخة التوأم لـ»التيك توك» المستخدم عالمياً.
وبالتفكر قليلاً، نجد أن اختلاف الخادم Server بين الصين والعالم ليس ذريعة؛ لأنه بمقدور الدولة العالية الخبرة في المجال الرقمي، التي طورت شبكات الجيل الخامس من الإنترنت قبل كبرى دول العالم الأول، أن تقدم نسخاً متوافقة من التطبيقات التي تطرحها، لكن الصين آثرت العكس، لضمان عدم إتاحة أي بيانات عن مستخدميها للعالم. فالصين تفضل ألا يتوقع الآخرون أخبارها ونواياها إلى أن تعلن بنفسها عنها.
وبهذا الغموض، تستطيع الصين أن تحكم العالم وتتسلل إلى أرجائه بسهولة، بدون أن يعلم أحد مجرد كيف تتمكن الصين من فعل ذلك.
وفي يناير/كانون الثاني 2019، تنبه «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي – وهو أكبر مؤسسة بحثية أمريكية، وواحد من رواد الفكر في العالم ـ لخطورة " التيك توك" الذي تسارعت وتيرة استخدامه في العالم، لدرجة أنه ينتشر بين أفراد القوات المسلحة في الولايات المتحدة.
ومن ثم، ينقل التطبيق موقع وصورة المستخدم، وجميع المعلومات السلوكية والمادية عنه، ما قد يفسد تحركات الجيش، إذا استخدمه أحدهم في مواقع الاشتباك، أو حتى عندما يتم توصيل الهاتف الذكي بشبكة الإنترنت. وما جعل الأمر يزداد ريبة، إعلان مصمم التطبيق زيادة التعاون مع الحزب الشيوعي الصيني.
ولم تكن الولايات المتحدة هي فقط من ارتابت في أمر التطبيق، فقد منعته إندونيسيا لأنه يحرض على وينشر محتوى فاضحا في بعض الأحيان. أما بنغلاديش فقد حظرته.
وبعيداً عن كل ذلك، فإن استخدام الأطفال لهذا التطبيق بدون رقابة، يعد كارثة؛ لإمكانية ميل العقل الطفولي نشر محتوى قد يتسبب في وصم مستقبله بعار لا ينمحي. التسلية، والمتعة، والتخلص من الملل حق للجميع.
على الرغم من ذلك، يجب أن يتنبه الأفراد في العالم إلى أن الرقمنة طريق محفوف بالمخاطر، فإذا كانت تسهل سبل الحياة، لكنها تقتل الخصوصية، وتسرق الأفكار، وتجعل محتوى العقل والتوجهات الأخلاقية والسلوكية متاحة لجهات قد تتلاعب بالفرد في أي وقت شاءت.
فيتحول الفرد حينئذ إلى قنبلة موقوتة، من المتوقع انفجارها في أي لحظة، لتتسبب في دمار أفراد أو دول بأكملها، من قبل جهة غامضة قامت بوضع ستار حديدي يفصلها عن دول العالم.
بقلم: نعيمة عبد الجواد
المصدر: القدس العربي