وما يعنينا في هذه العصور هو البعد الواقعي الحسي، وليس المعنوي والروحي، وليس شخصيات المؤسسين ومستويات قدسيتهم ومقاماتهم الدينية والعلمية، بل أدوارهم الواقعية التي مثلت بداية عصر جديد، وشكّلت منعطفاً تاريخياً. أي أنّ هذه العصور ليست عصوراً علمية أو فقهية أو سياسية، بل هي عصور شاملة لصعود النظام الاجتماعي الديني الشيعي واستحكام دعائمه وقوته الميدانية.
1ـ العصر الأول: عصر الإمام علي بن أبي طالب في المدينة والكوفة
وهو العصر الذي أسسه وقاده الإمام علي، ومثّلت شخصيته قاعدة نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ الحدث المفصلي الذي أدى تلقائياً إلى ولادة هذا العصر هو إبعاد الإمام علي عن استحقاقه الشرعي في رئاسة الدولة الإسلامية وإمامة الأُمّة عملياً. واستمر هذا العصر (112) عاماً، أي منذ يوم السقيفة في العام 11 للهجرة (632م)، وحتى تبلور حراك الإمام جعفر الصادق إثر تأسيس الدولة العباسية في سنة 132هـ (750م).
وشهد هذا العصر نشوء الظواهر الأُولى للنظام الاجتماعي الديني الشيعي تدريجياً خلال حكومات الخلفاء الراشدين الثلاث، ثم خلافة الإمام علي والإمام الحسن بن علي للدولة الإسلامية، وإسقاط حكومة الإمام الحسن، ثم إمامة الحسين بن علي وواقعة كربلاء، وإمامة علي بن الحسين السجاد، وثورة المختار الثقفي، وإمامة محمد الباقر والمرحلة الأُولى من إمامة جعفر الصادق وثورة زيد بن علي وحراكات العلويين الأُخر ضد السلطة الأُموية.
2ـ العصر الثاني: عصر الإمام جعفر الصادق في المدينة والكوفة
بدأ العصر الثاني على يد مؤسسه الإمام جعفر بن محمد الصادق، في العام 132ه (750م)، إثر سقوط مدينة الكوفة بيد الحركة العباسية، وبدايات انهيار السلطة الأُموية، وهي المرحلة الثانية من فترة إمامة الصادق. وقد شهد هذا العصر تبلور المدرسة الفقهية الشيعية في ظل الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تمتع بها الشيعة، والتي ساعدت على تحكيم قوة نظامهم الاجتماعي الديني بصورة كبيرة. كما شهدت ظهور الفرق الكلامية والمذاهب السنية الفقهية التي تخلّصت إلى حد كبير من سطوة الدين الأُموي واجتماعه السياسي الموروث، وبدت قريبة من المذهب الشيعي وإمامة الصادق (1)، وغير متضادة معهما.
وعاد الواقع الشيعي إلى عصر التراجع بعد تشديد السلطة العباسية قبضتها على الشيعة. وشهد هذا العصر إمامة موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد المهدي المنتظر، وانتهى بغيبة الإمام المهدي وظهور زعامة نائبه الخاص الأول الشيخ عثمان بن سعيد العمري في العام 260هـ (874م)، أي أنّ العصر الثاني استمر (128) عاماً تقريباً.
3ـ العصر الثالث: عصر الشيخ عثمان بن سعيد العمري في بغداد
مؤسس هذا العصر وقائده هو الزعيم الشيعي عثمان العمري الأسدي، المعروف بالسفير الأول والنائب الخاص الأول للإمام محمد بن الحسن المهدي، وهو الذي أسس لواقع النيابة الخاصة للإمام المعصوم بتشريع من الإمام نفسه (2)، بعد بدء غيبته في العام 260هـ (874م). وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب هو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الإمامة؛ فإنّ الشيخ العمري هو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة.
وقد شهد هذا العصر توالي ثلاثة سفراء على خلافة الشيخ العمري، ثم بداية الغيبة الكبرى، وتأسيس الحوزة العلمية في قم، وظهور مجموعة المحدثين والفقهاء المؤسسين، كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والمرحلة الأُولى من زعامة الشيخ الطوسي. كما شهد هذا العصر ظهور الدولة البويهية الشيعية التي شكلت الحماية السياسية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي في العراق وإيران، وكذلك مرحلة قوة الدولة الإدريسية الشيعية في المغرب والجزائر وتونس، والدولة الحمدانية الشيعية في شمال العراق وأغلب بلاد الشام، والدولة الفاطمية الشيعية في مصر، والدولة العلوية الشيعية في طبرستان إيران. واستمر هذا العصر (188) عاماً، أي أنّه استمر حتى تأسيس الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العام 448هـ (1056م)، وهو يمثل أحد العصور الذهبية للشيعة؛ إذ تخلله سيطرة الحكومات الشيعية على أغلب العالم الإسلامي (3)، لكنه انهار انهياراً مدوياً على يد صلاح الدين الأيوبي، وطغرل السلجوقي، وبقايا الأُمويين في شمال إفريقيا (4).
4ـ العصر الرابع: عصر الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في النجف
بدأ هذا العصر مع هجرة زعيم الشيعة ومرجعهم الديني الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس حوزته العلمية في العام 448هـ (1056م). وتميز بالتألق العلمي الكبير للمذهب الشيعي، واستحكام الدعائم الفكرية والعملية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي وهيكليته وامتداداته في الجوار الإقليمي (5).
ويمكن القول إنّ الشيخ الطوسي أول من أسس للمركزية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما كان في عصر الأئمة الاثني عشر، حيث بات الزعيم الديني للشيعة يشرف على الواقع الشيعي في أغلب البلدان بشكل مركزي، انطلاقاً من النجف. وبالتالي، فالنجف لم تكن مجرد حوزة علمية أو حاضرة دينية (6)، بل تحولت ولأول مرة إلى عاصمة مركزية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، كونها مدينة شيعية خالصة، وهو ما لم يكن متحققاً في بغداد، العاصمة السياسية للدولة والمدينة المختلطة. ولم يشهد هذا العصر ظهور دول شيعية قوية، بل كانت بعض الإمارات الصغيرة في العراق وإيران وتركيا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها، والتي ظلت تعاني من موجات الغزو الطائفي من السلطات المركزية العباسية ثم العثمانية أو الإمارات السنية المجاورة. وقد استمر هذا العصر ما يقرب من (459) سنة، أي حتى ظهور الدولة الصفوية في العام 907هـ (1501م) على يد الشاه إسماعيل الصفوي.
5ـ العصر الخامس: عصر السيد إسماعيل الصفوي الموسوي في تبريز وإصفهان
بدأ هذا العصر على يد السيد إسماعيل بن حيدر الصفوي، وهو عميد السادة الصفويين في زمانه، وهي أُسرة علوية مهاجرة من أُصول عراقية ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم. واتخذ السيد إسماعيل الصفوي لقب الشاه إسماعيل بعد أن أسس الدولة الشيعية الصفوية انطلاقاً من مدينة تبريز في العام 907هـ (1501م)، ثم انتقلت عاصمتها إلى مدينة إصفهان في عصر حفيده الشاه عباس الأول في العام 1006هـ (1598م). وهي أول دولة شيعية إقليمية منذ انهيار الدولة الفاطمية قبل ذلك التاريخ بثلاثة قرون ونصف، وهي القرون التي كان خلالها الشيعة يعيشون أوضاعاً صعبة من القمع والاضطهاد، فجاءت الدولة الصفوية لتقلب المعادلة الطائفية في المنطقة الإسلامية رأساً على عقب، وتنهي احتكار الدولة العثمانية السنية لحكم العالم الإسلامي (7). وكان البناء المذهبي للدولة الصفوية يقوم على جهود الفقهاء العرب (العراقيين واللبنانيين والبحرانيين)، الذين كانوا أئمة الدولة وقضاتها ومبلغيها. ولذلك فإنّ المنظومة العقدية والفقهية التي حكمت الدولة الصفوية؛ أنتجها علماء دين عرب (8)، وليسوا فرساً أو أذربيجانيين.
وقد شهد هذا العصر تطوراً شاملاً في الواقع الشيعي المحلي والدولي، وبات الشيعة يحكمون أغلب مناطق غرب آسيا وشرقها، بدءاً بإيران وأفغانستان وأجزاء من شبه القارة الهندية وانتهاء بالعراق وأجزاء من القوقاز والمناطق الخليجية. وشكلت الدولة الصفوية حماية أساسية للشيعة العرب بوجه المجازر التي كانوا يتعرضون لها على يد العثمانيين. وبات هناك تداخل كبير بين النظام السياسي للدولة والنظام الاجتماعي الديني الشيعي. كما شهد هذا العصر نهضة علمية وفقهية كبيرة جرت أغلب فصولها في النجف وإصفهان.
واستمر الصعود الشيعي السياسي والثقافي والاجتماعي هذا مدة (262) سنة، أي حتى انهيار الدولة الصفوية في العام 1763م. وأعقب سقوطها انهيارات متوالية في الواقع الشيعي، وتعرض النظام الاجتماعي الديني الشيعي إلى ضربات منظمة قاسية من الدولة التركية العثمانية، وكان أبشعها المجازر التي ظل يتعرض لها شيعة لبنان والعراق. وقد استمرت الانهيارات مدة (216) عاماً متواصلة (9)، أي حتى ظهور دولة الإمام الخميني في إيران في العام 1979م.
6ـ العصر السادس: عصر السيد روح الله الموسوي الخميني في قم وطهران
تخلل القرن الميلادي العشرين صحوات محدودة وثورات محلية ومشاريع ستراتيجية شيعية في العراق ولبنان وإيران وباكستان وغيرها (10)، بدأت منذ العام 1905؛ إلّا أنّها لم ترق إلى التأسيس لعصر شيعي جديد. بينما شكّل نجاح ثورة الإمام روح الله بن مصطفى الموسوي الخميني وتأسيس الدولة الإسلامية الشيعية في إيران في العام 1979م؛ بداية عصر جديد للنظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهو ثاني مرجع ديني في التاريخ يؤسس لعصر شيعي بعد الشيخ الطوسي.
وتختلف الدولة التي أسسها الإمام الخميني اختلافاً جذرياً عن الدول الشيعية التاريخية التي سبقتها؛ لأنّ جميع تلك الدول كانت دولاً سلطانية وراثية متشبهة بالدول السلطانية السنية، ولم يتأسس نظامها السياسي على نظرية فقهية. أي أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران هي أول دولة شيعية عقدية في عصر الغيبة تستند إلى مبدأ فقهي تأصيلي هو مبدأ ولاية الفقيه، وأول حكومة إسلامية عقدية إمامية بعد حكومة الإمام الحسن بن علي.
وترافقت مسيرة الدولة الإسلامية الشيعية في إيران مع نهوض شيعي شامل، ديني وعلمي وسياسي واجتماعي ودولي، منح للنظام الاجتماعي الديني الشيعي حمايةً وقوة وتمدداً غير مسبوق، منذ انهيار الدولة الصفوية، ليس على مستوى إيران وحسب؛ بل على مستوى جميع الدول التي تضم امتدادات للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ولا سيما العراق ولبنان وآذربيجان وأفغانستان واليمن ولبنان وسورية، وهي البلدان التي شهدت التحولات الشيعية الأبرز خلال العقود الأربعة من عمر العصر الشيعي السادس. وقد قلبت هذه التحولات الطاولة على النظم الطائفية التي ظلت تمارس أقسى ألوان التمييز والاضطهاد والقمع ضد الشيعة. ولذلك لم تتعرض أي دولة شيعية للغزو الطائفي بهذه الشدة والشمولية والكثافة كما تعرضت له جمهورية الإمام الخميني، في إطار محاولات نوعية إقليمية ودولية لإسقاط العصر الشيعي السادس (11).
بقلم: د.علي المؤمن