شكلت قمة العشرين الاختبار الأقوى لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، لأنها كانت المرة الأولى التي يظهر فيها في محفل دولي، وعلى هذا المستوى، وسط أبرز زعماء العالم، منذ عملية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول قبل شهرين تقريبا، وتوجيه البعض بأصابع الاتهام إليه باعتباره كان على دراية بهذه المؤامرة ويقف خلفها.
انقسمت الآراء حول مكانة الأمير بن سلمان ونظرة زعماء العالم إليه، فبينما قالت وكالة الأنباء العالمية "رويترز" أنه كان يعيش عزلة حيث تجاهله معظم زعماء العالم، ورفضوا مصافحته أثناء التقاط الصورة الجماعية للمشاركين في القمة، حيث كان مكانه في أقصى يمين الصف الثاني، وبدا عليه التوتر والنرفزة، رأت زميلتها ومنافستها وكالة الأنباء الفرنسية العكس تماما، واعتبرته "نجم" القمة حيث تسلطت عليه الأضواء، وقالت أنه لم يبدو "منبوذا" مثلما توقع بعض المحللين، والتقى حوالي 12 زعيما، ولم يفتح المدعي العام الأرجنتيني أي تحقيقات مع الأمير بن سلمان تلبية لطلب من منظمات لحقوق الإنسان أبرزها "هيومان رايتس ووتش"، بسبب دوره في اغتيال الخاشقجي، وجرائم الحرب في اليمن، وغادر الأرجنتين مثلما دخلها.
معظم القادة الذين صافحوا الأمير بن سلمان التقوه خلف أبواب مغلقة، ونحن نتحدث هنا عن زعماء دول كبرى مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية وبريطانيا وفرنسا وكندا والمكسيك، البعض منهم ركز على العلاقات التجارية، بينما تعمد البعض الآخر، مثل تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا إلى مطالبته بالتعاون مع المحققين الأتراك في قضية خاشقجي حتى يتم الوصول إلى محاسبة في إطار من الشفافية، ودعم المفاوضات حول اليمن، أما إيمانويل ماكرون، فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما طالب بتحقيق دولي لتحديد هوية القتلة، وتقديمهم إلى العدالة، وجرى تسريب للقاء مصور بين الاثنين اعترف فيه الرئيس الفرنسي بقلقه، واتهم الأمير السعودي بأنه لا يستمع إليه، وهو ما نفاه الأخير، أما جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا الذي تتصف علاقات بلاده بالسعودية بالتوتر فقد كان أجرأ الجميع عندما فتح ملف انتهاكات حقوق الإنسان المتضخم في السعودية، وأثار مجددا قضية النشطاء المعتقلين والمعتقلات، إلى جانب قضية اغتيال خاشقجي.
المصافحة الحارة بين الأمير بن سلمان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش القمة تصدرت معظم شاشات التلفزة العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من يعتقد في أوساط المراقبين أن الرئيس بوتين بالغ بالحفاوة بالأمير السعودي، لإغاظة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان ينظر إلى اجتماع الرجلين وتبادلهما الضحكات والابتسامات بقلق شديد، وغضب واضح خاصة أنه، أي ترامب، تجنب عقد أي لقاء رسمي مع ولي العهد السعودي، واكتفى بتبادل المزاح معه في لقاء عابر، حسب بيان رسمي أمريكي.
الرئيس بوتين الذي ألغى الرئيس ترامب لقاء كان مقررا معه على هامش القمة بسبب تطورات أزمة اوكرانيا، رد بطريقة تنطوي على الكثير من الدهاء، عندما نجح في استغلال حالة الحرج التي يعيشها ولي العهد السعودي، وحاول إبعاده ولو جزئيا عن الحليف الأمريكي التاريخي باستقباله ومصافحته بحرارة، وتوصل معه إلى اتفاق بتمديد خفض إنتاج النفط الذي جرى التوصل إليه أثناء اجتماع الجزائر بين وزراء نفط "أوبك" وروسيا قبل ستة أشهر، والأهم من ذلك أن الرجلين اتفقا على قيام الرئيس الروسي بزيارة إلى الرياض أوائل العام المقبل، وقد تكون المكافأة عقودا تجارية واستثمارية وصفقات ضخمة أثناء هذه الزيارة.
لا شك أن الأمير بن سلمان كسر جزءا كبيرا من حائط العزلة حول نفسه وبلاده، بعد اعتراف حكومته رسميا بقتل الخاشقجي وتقطيع جثته، والضجة الإعلامية الكبرى التي ترتبت على هذه الجريمة وأثرت بشكل سلبي على صورته والسعودية في العالم، ولكن ما زال هناك طريق طويل يترتب عليه قطعها لإصلاح هذه الصورة، واندماجه بشكل طبيعي في الأسرة الدولية.
ولعل ما كشفته صحيفة "وول ستريت جورنال" المقربة من الرئيس ترامب يوم أمس السبت من مقتطفات من تقرير سري لوكالة المخابرات المركزية كشف أن الأمير بن سلمان بعث بـ11 رسالة إلى مستشاره الأول السيد سعود القحطاني الذي شكل وأشرف على فريق الموت قبل ساعات من قتل خاشقجي، تؤكد أنه كان على علم مسبق بخطة الاغتيال المدبرة، هو أحد الأدلة المهمة في هذا الصدد، خاصة أن الوكالة نفسها توصلت إلى نتيجة مؤكدة بأن الأمير السعودي هو المسؤول الأول عن هذه الخطة في تقرير آخر.
من شاهد حالة الغضب والتجاهل التي ارتسمت على وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء مروره بالقرب من مكان وقوف بن سلمان على منصة التقاط صورة الزعماء، يخرج بانطباع مؤكد بأن مسلسل المفاجآت حول جريمة القتل المذكورة لن يتوقف، خاصة أن مستشاري الرئيس أردوغان أكدوا أنه رفض طلبا من ولي العهد السعودي بلقائه على هامش القمة، ونفوا رغبته في التوصل إلى أي صفقة تؤدي إلى إغلاق هذا الملف.
قلناها، ونكررها، المصالح تتقدم على قيم حقوق الإنسان، وقمة العشرين ولقاءات 12 زعيما مع الأمير بن سلمان تؤكد هذه الحقيقة، فإذا كانت زيارته التي لم تستغرق إلا أربع ساعات لتونس وهو في طريقه إلى القمة عادت على الخزينة التونسية بحوالي نصف مليار دولار، فلماذا الاستغراب؟ فغضبة الشارع العفوية شيء وما يريده ويفعله الحكام شيء آخر مختلف كليا.
لغة المال والمساعدات هي الأقوى من كل اللغات الأخرى، وهذا هو السلاح الأكثر أهمية في جعبة الأمير السعودي، مضافا إلى ذلك إحكام قبضته على الحكم في بلاده، فقد ذهب إلى أبعد نقطة جغرافية في أمريكا الجنوبية، وها هو في طريقه إلى العودة إلى الرياض، وكأنه في نزهة صيد في الصحراء المحيطة بها.. هذه هي الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، شئنا أم أبينا، حتى الآن على الأقل.. والله أعلم.
عبد الباري عطوان - رأي اليوم