"قابلة الموت" مهنة جديدة نسبيا؛ لكنها آخذة في النمو على مستوى دول العالم، إذ يبحث المحتضر عن السكينة والطمأنينة للرحيل بسلام، ويبحث ذووه وأقاربه عن الرضا والقبول، وهو ما تقدمه "دولا" الموت بعيدا عن جفاف الأطباء وبرودة جدران المستشفيات، وبعيدا أيضا عن جدلية "الموت الرحيم"، حيث يقرر المصابون بأمراض عضال أو ذووهم إنهاء حياتهم لتخفيف آلامهم.
بحسب "هيلث لاين" (Healthline)، فإن "دولا الموت" هي مهنة غير طبية، تشير إلى شخص مدرب على رعاية الاحتياجات الجسدية والعاطفية والروحية للشخص المصاب بمرض عضال أثناء عملية الوفاة، لتقديم كافة أشكال المساعدة له.
ويطلق على "دولا الموت" عدة مسميات منها "مدرب نهاية العمر" أو "قابلة الروح" أو "قابلة الموت" أو "المرشد الانتقالي".
كيف ظهرت الفكرة؟
بهذا المعنى تعد "دولا الموت" مهنة حديثة نسبيا؛ لكن سوزان بي. أوبراين، مؤسسة منظمة "دولا غيفرز" (Doula givers)، والمتحدثة الدولية في مجال الرعاية الصحية، اكتشفت الأمر مبكرا وربما بمسمى آخر.
عملت "سوزان" معظم حياتها المهنية في التمريض برعاية المسنين والمصابين بالأورام.
في عام 2008، بدأت سوزان تقديم ندوات تعليمية مجتمعية وورش عمل للعائلات لتعليمهم كيفية رعاية أحبائهم في نهاية الحياة، ومع ذلك لم تكن الفكرة لديها تبلورت؛ لكن في عام 2012، ذهبت "سوزان" في رحلة تطوعية إلى زيمبابوي، في أفريقيا.
تلك الرحلة غيرت حياتها، فوفق "دولا غيفرز"، لم يمتلك شعب زيمبابوي الكثير من الأشياء المادية أو الرعاية الصحية، حتى إن متوسط عمر الأنثى يبلغ هناك 42 عاما.
وخلال الرحلة، رأت "سوزان" أشخاصا يتم تدريبهم على "الجلوس" مع الشخص المحتضر وإرشاده خلال رحلة نهاية الحياة، بدون الأدوية والمعدات الطبية، وكانت التجربة فعالة للغاية.
ذكر ذلك العمل "سوزان" بمفهوم "دولا الولادة"، وعندما عادت إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولدت فكرة مؤسسة "دولا غيفرز نهاية الحياة" (Doula givers End of Life)، لتصبح رائدة في ذلك المجال وتنتشر المؤسسات المشابهة حول العالم.
ماذا تفعل "دولا الموت"؟
في الوقت الذي لا يوجد فيه حصر دقيق لأعداد "دولا الموت" حول العالم، تشير "المنظمة الدولية لقابلات الوفاة" (INELDA) في نيوجيرسي، وهي منظمة غير ربحية تشرف على تدريب القابلات، أن ذلك المجال شهد ارتفاعا كبيرا في الأعداد خلال السنوات الماضية.
وتقدم المنظمة شهادات تدريب "دولا الموت" منذ عام 2016، لديها 30 "دولا" معتمدة، كما منحت أكثر من 700 شهادة تدريب، لتقوم "الدولا" بدورها في دعم الأشخاص المحتضرين أثناء نهاية الحياة، وكذلك تدعم أسرهم وأحباءهم.
حيث يمكنها أن تساعد في عدة جوانب منها:
المساعدة في إنشاء خطط إيجابية لنهاية العمر.
تقديم الرعاية الروحية والدعم النفسي والاجتماعي.
اقتراح أفكار من أجل الراحة الجسدية.
المساعدة في التخطيط للجنازة والدفن والعزاء.
المساعدة في كتابة الرسائل التي يتركونها لأقاربهم بعد الموت.
قراءة القصص للمحتضرين أو مساعدتهم في عمل مشاريع فنية كاللوحات أو "الكروشيه" لتركها لأحبتهم.
تقديم دعم شامل لعائلة المتوفى قبل الموت وأثناءه وبعده.
تخفيف القلق والخوف ومنحه الإحساس بالراحة والسكينة.
تخفف دولا الموت قلق كبار السن وتمنحهم الإحساس بالراحة والسكينة (بيكسابي)
دولا المسلمين
على الرغم من عدم انتشار مهنة "دولا الموت" في الدول العربية والإسلامية بعد، يلجأ عدد من المسلمين في الدول الغربية إلى "الدولا" في نهاية حياتهم.
مريم أرداتي، سيدة ثلاثينية مسلمة، تعيش في جنوب غرب سيدني، وتعمل "قابلة وفاة" مع أفراد الجالية المسلمة في أستراليا.
تعرف "أرداتي" طبيعة مهمتها بأنها ترتكز على مساعدة الشخص المحتضر على الوفاة بكرامة وبطريقة تتماشى مع قيمه، قد يعني ذلك أحيانا إشعال الشموع أو إمساك اليد أو تمارين التنفس أو المشي في الطبيعة، مضيفة "أي شيء وكل شيء يبث فيهم روح الطمأنينة".
كانت نقطة التحول في حياة "أرداتي" اللبنانية الأصل، عندما تعرضت لحادث سيارة كبير، خرجت منه سالمة تماما؛ لكن مع اقترابها من الموت في تلك اللحظة، بدأت تتساءل عن سر وجودها، وما يحدث للإنسان بعد الموت، فاقتربت أكثر من المحتضرين والجنازات والعمل الإنساني بشكل عام.
لاحظت "أرداتي" أن الكثير من القلق، الذي يساور المحتضر، كان حول بيروقراطية الموت ذاته، مثل تحديد المكان الذي يريد أن يموت فيه سواء في البيت أو في المستشفى، وترتيبات الجنازة، وكتابة وصية، ومن سيهتم بالأطفال أو الحيوانات الأليفة، وكيفية إيصال كل هذا إلى الأحباء.
كانت "أرداتي" تريد المساعدة في تلك الحالات بالذات، مما دفعها إلى الالتحاق بدورة تدريبية لقابلات الوفاة التي تديرها "كلية القابلات الأسترالية" (The Australian Doula College)، وتعلمت فيها كيفية تقديم الدعم للمرضى عند الاحتضار.
الطلبات الأخيرة
اختارت "أرداتي" أن تكون جسرا بين المحتضرين وذويهم، واختارت أن تقدم تلك الخدمة للجالية المسلمة بالتحديد؛ لأنه بجانب توفير الرعاية والدعم لا بد من مراعاة الخصوصية الثقافية.
توضح "أرداتي" أن الاختلاف يكمن في التفاصيل الصغيرة، مثل الاستماع إلى القرآن، أو المساعدة في التيمم؛ لأن بشرة البعض قد تكون حساسة تجاه المياه مع نهاية العمر.
تقضي "أرداتي" الوقت في طمأنة المحتضر بشأن علامات الوفاة الطبيعية ومساعدته لتقبل الأمر بطمأنينة، وتهدئة الأسرة ودفعهم إلى تقبل الأمر والهدوء.
وتقضي الوقت أيضا في تلبية رغبات المحتضر، مشيرة إلى أن الطلب الأكثر شيوعا بين المحتضرين المسلمين هو الاستماع إلى تلاوة هادئة للقرآن الكريم في الغرفة، أو أن يجلس شخص بجانب السرير ويتلو ما تيسر من الآيات.
وتتضمن الطلبات الأخرى الخاصة بالمسلمين وضع سرير أو كرسي في اتجاه مكة "القبلة".
وهناك طلبات أخرى شخصية، تعرضت لها "أرداتي" أثناء تأدية مهمتها، كانت إحدى المحتضرات تحب إشعال الشموع المعطرة والزيوت الأساسية عند غروب الشمس، وضمنت "أرداتي" استمرار تلك العادة حتى يوم وفاتها.
امرأة أخرى كانت غير قادرة على بلع الطعام؛ لكنها كانت تحب استنشاق رائحة طعامها المفضل "ورق العنب"، واظبت "أرداتي" على طهوه وانبثاق رائحة التوابل منه حتى رحيل المرأة ممتنة بما قدمته لها "قابلة الموت" في آخر حياتها.