فقد وضعت ادارة البيت الابيض الخطوط العريضة لسياستها تجاه العراق منذ نشوء الدولة العراقية بعد ثورة العشرين عام 1920للميلاد.
وتجنبا للاطالة نبدا من تاريخ الانقلاب العسكري الذي نفذه البعثيون والقوميون ضد حكومة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ، حيث شكلا ما سمي في وقته "الحرس القومي" الذي قام بقتل قاسم داخل استوديو اذاعة بغداد في 8 شباط/ فبراير عام 1963 وبطريقة بشعة، وسيطروا على السلطة.
وكان لـ "الحرس القومي" سجل اسود مليء بالجرائم ضد ابناء الشعب العراقي يندى لها الجبين بمعنى الكلمة ، ويخجل القلم من كتابة حروفها ، ويعرفها الجيل الذي عاصر تلك الفترة المظلمة ، كل ذلك جرى من ألفه الى ياءه باشراف السفارتين الامريكية والبريطانية في بغداد.
بعد ثمانية اشهر من هذا الانقلاب العسكري اختلف حلفاء الامس وحصل الطلاق الخلعي بينهما وتفرد القوميون بالحكم وحصلت المجازر وطرد البعثيون من الشراكة شر طردة... وهكذا هو ديدن العصابات السياسية التي لا تتبنى أي فكر شريف سوى الانقياد للأجنبي الذي يحقق لهم مصالح شخصية وفؤية رخيصة ، وكل ذلك كان يدار باصابع امريكية وبريطانية ، والضحية ابناء الشعب العراقي... ارهاب وفقر وتخلف على جميع المستويات.
ما ان احس الامريكان وحليفهم الاستراتيجي بريطانيا بنمو الحركة الاسلامية الواعية في العراق وعدم قدرة القوميين على مواجهتها حتى حركوا اداتهم الطيعة حزب "البعث العربي الاشتراكي" المعروف بجذوره الصهيونية ، فالمؤسس هو ميشيل عفلق الصهيوني المعروف والذي حكم عليه غيابيا بالاعدام من قبل القضاء السوري بجريمة الخيانة العظمى ، ولمن يريد ان يتابع هذا الموضوع سيجد العجب العجاب.
نجح الانقلاب الذي قاده احمد حسن البكر ونائبه صدام ليطيح بحكومة عبد الرحمن عارف في 17 تموز سنة 1968، وتبعت هذا الانقلاب الاسود تصفيات جسدية طالت مختلف شرائح المجتمع العراقي بما في ذلك الرفاق من قادة الانقلاب.
واستمر ولوغ البعثيين في دماء العراقيين بكل شرائح المجتمع سواء القومية او طوائفه الدينية ، ويكذب من يقول ان هناك قومية او منطقة او طائفة معينة لم تصل اليها سياط حزب البعث بقيادة الجلاد الكبير والديكتاتور الاوحد المقبور صدام.
وقصص هذه الجرائم واشكالها ثابتة في اذهان الغيارى من ابناء الشعب العراقي الذين عاصرو تلك الفترة المظلمة ، وباختصار كانت تتمثل بالآتي:
خيانة الحزب والثورة ، وهذه تشمل تصفية الحزبيين المنافسين للمقبور صدام.
التخابر مع الخارج ، وهذه تشمل الكتاب والمفكرين وعلماء الدين واساتذة الجامعات وكبار التجار ووجهاء المجتمع.
المجرم "ابو طبر" ، الذي كان يقتل كبار الضباط في القوات العراقية سواء من الجيش او الشرطة وكذلك الوجهاء في المجتمع العراقي ـ وقصته تحتاج لكلام طويل ـ واعلن عن منح جائزة لمن يلقي القبض عليه ، وبالنتيجة "ابو طبر" الذي كان ينفذ تلك الجرائم هو نفسه القائد الأوحد المقبور صدام.
التهجير القسري الى خارج الوطن ، والذريعة ان لديهم اصول غير عراقية ، وهي كذبة مفضوحة لا اساس لها من الصحة طبقا للأعراف والقوانين السماوية والدولية والوضعية اذا ما استثنينا منها النزوات البعثية المقيتة.
والقائمة طويلة وتحتاج الى كتب وليس مقال في اسطر معدودة.
كل ذلك كان يجري بتخطيط وتوجيه انجلوامريكي ، في حين كان الجلادون يظهرون العداء الكاذب لواشنطن ولندن امام الرأي العام من خلال اعلامهم المظلل ، ويرفعون الشعارات القومية التي زرعت الخلافات بين ابناء الشعب العراقي ، فنشطت حركة الانفصاليين الكرد في شمال العراق ، ونمى الحس الطائفي في الوسط والجنوب.
وكانت مواقف المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف معروفة ومشرفة فصدرت فتاوى تحرم قتال الكرد في الشمال ، واخرى تخاطب ابناء الشعب بأن المرجعية تقف على مسافة واحدة من الجميع بقدر ما هم مع قضايا العراق الوطنية والعقائدية المشتركة بين افراد المجتمع.
هذه المواقف من قبل المرجعية العليا في النجف الاشرف لم تروق للسفارتين البريطانية والامريكية في بغداد، لانه واضح جدا ان المشروع الانجلوامريكي لا يمكن له ان يحقق جميع اغراضه وهناك فتاوى وتصريحات تصدر عن المرجعية الدينية تعرقل مسار هذا المشروع الخبيث.
الجميع يعرف ان المرجعية الدينية تحتل مكانة عالية لدى ابناء الشعب العراقي بإستثناء البعثيين والبعض من العلمانيين ، وقد استطاعت المرجعية ان تنشر الوعي بين شرائح المجتمع العراقي الامر الذي انتبه له الاستكبار العالمي وعلى رأسه امريكا التي رأت ان الامور بدأت تنفلت من يد البعثيين فجاءت الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها لتحتل العراق ، وبالفعل تم احتلال بغداد في 9 نيسان من عام 2003 عندما فر البعثيون كالجرذان الى جحورهم وأولهم قائدهم الديكتاتور صدام ، القائد العربي الاوحد وبطل التحرير القومي والقائد الضرورة ووو... كما كان يدعي لنفسه هذه الالقاب الكاذبة.
ومن هنا دخل العراق مرحلة جديدة حيث اصبحت امريكا هي التي تدير تنفيذ حلقات التآمر على الشعب العراقي بشكل مباشر دون واسطة مستخدمة في ذلك كل الخونة والعملاء الذين باعوا ضمائرهم بثمن بخس دولارات معدودات.
ولعل معاناة اربع عقود من النظام الديكتاتوري البعثي جعلت الشعب العراقي في الايام الاولى للاحتلال الامريكي للبلاد متفائلا بزوال الكابوس ليستنشق هواء الحرية، لان واشنطن كانت تروج لشعار "جئنا منقذين لا محتلين" ولكن لم تدم هذه الفرحة طويلا حيث كشر الاحتلال عن انيابه وبدأت مسلسلات التآمر تنفذ الواحدة تلو الاخرى ، ووصل الحال ان يجاهر الاحتلال بـ "حرمة الكهرباء والخدمات على العراقيين" دون خجل ولا حياء ، وذلك للضغط على الحكومات العراقية المتعاقبة (2005 ـ 2020) لترضخ هذه الحكومات للإملاءات الامريكية.
وتبنى الاعلام الامريكي ومن يدور في فلكه من الاعلام العربي الترويج لفكرة ان كل الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب العراقي من قبل حزب "البعث العربي الاشتراكي" كانت من قبل الديكتاتور صدام المقبور واختصرت في شخصه ليكون هذا مبررا لإعفاء البعثيين عن تلك الجرائم التي اقترفوها ضد الشعب العراقي والمنطقة وبالتالي عودتهم الى الساحة السياسية بشكل علني وتجنيدهم لتنفيذ حلقات المسلسل المشؤوم.
من جميع هذه المعطيات يستطيع المتابع الجزم بأن الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة حلفائها تتبنى إستراتيجية تدمير الدولة العراقية وتفتيت العراق على المستوى الجغرافي والمجتمعي، من خلال التوظيف السلبي للتعددية القومية والدينية والطائفية والمناطقية ، التي يمتاز بها العراق.
ولابد من الاشارة الى ان هذه التعددية هي مصدر قوة لهذا البلد الذي عرف بالتعايش السلمي بين جميع طوائفه وقومياته على مر العصور، واحدى مصاديق ذلك ، تشكيلة قوات الحشد الشعبي الذي أحتضن جميع هذه القوميات والطوائف والاديان في العراق ، والتي من جانبها لبت فتوى المرجعية الدينية بالجهاد الكفائي ، والتي حققت المعجزات في معاركها مع داعش الارهابي واذنابه من فلول البعثيين الصداميين.
ومن هنا يجب على النخب العراقيية من سياسيين واكاديميين واعلاميين ووجهاء المجتمع إتمام الانتصارات التي حققها الابطال في جبهات القتال وذلك من خلال خوض المعركة السياسية بما يخدم مصلحة العراق وينهي الاحتلال ويفشل المخطط الامريكي المرحلي المشؤوم الذي بدأت تظهر بوادره اعلاميا.
(( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)) سورة الاحزاب آية ٢٥.
جابر كرعاوي