وهناك من يتفاءل خيراً بهذا الامر، ويعدّه جسراً للتقارب بين طهران و الرياض، باعتبار أن الحكومة العراقية السابقة في عهد عادل عبد المهدي كانت قد بدأت في بذل سلسلة من المساعي الحميدة الهادفة لتقريب وجهات النظر بين ايران والسعودية، و تمهيدا لتطبيع الاجواء بينهما، وزارهما عادل عبد المهدي ولقي منهما ترحيباً بهذه المساعي، وكان ثمة موعد رسمي وسري للفريق قاسم سليماني مع رئيس الوزراء العراقي آنذاك لتسليمه الرد الايراني الرسمي لكيفية استئناف العلاقات الايرانية- السعودية، لكن الدوائر الصهيونية تتضرر من تطبيع علاقات الرياض و طهران، فجاء القصف الامريكي لسيارة الفريق سليماني اثناء خروجها من مطار بغداد، ثم اضطر عادل عبد المهدي لتقديم استقالته [بعد خطبة كربلاء، وضغوط السفارة الأمريكية ببغداد عليه، وتحريكها لأحداث الشغب في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية] مما حال دون استمرار تلك الوساطة، التي لم ترغب بنجاحها أساسا إدارة ترامب واللوبي الصهيوني، فتوقفت جهود الوساطة العراقية منذ حوالي العام ونصف العام.
ومع سقوط الأرعن ترامب الخاسر ذي الحظ العاثر ومجيء حكومة بايدن وما تمخض عن قمة "العلا" الخليجية من المصالحة السعودية - القطرية، وإبداء استعداد قطر للوساطة بين طهران والرياض؛ يبدو أن حكومة الكاظمي قررت الإمساك بعنصر المبادرة واستئناف جهود بغداد السابقة من أجل تحقيق انفراج في العلاقات السعودية - الايرانية، لا سيما مع تزايد مظاهر فشل حكومة الكاظمي داخلياً وتفاقم النقمة عليها وتعرّضها لضغوط كبيرة من الكتل النيابية الشيعية، واحتمال استجوابه وعزله برلمانياً، فقررت بغداد بذل هذه المساعي الحميدة لتقديمها كامتياز وورقة ترضية لطهران عسى أن توحي الأخيرة لأصدقائها فيوقفوا مساعيهم لإسقاط حكومة الكاظمي ريثما يأتي موعد الانتخابات النيابية العراقية المقررة في 10-10 من العام الحالي.
والمعروف ان وزير الخارجية الحالي فؤاد حسين يسير على خطى سلفه (قبل محمد علي الحكيم) هوشيار زيباري في التقرب من الرياض وشقيقاتها الخمس ومن طهران في نفس الوقت، وهو ورئيسه مصطفى الكاظمي يعلمان أنهما لا يمكنهما الاستمرار في السلطة إلا برضى الكتل البرلمانية الشيعية [دولة القانون، والفتح وعراقيون وسائرون] اذن لابد من استرضاء طهران و كسب ودّها للتأثير على اصدقائها في الساحة العراقية معنوياً.
من جانب آخر؛ ثمة اموالٌ إيرانية مجمّدة في العراق هي عبارة عن ديون بذمة بغداد، وهي تتكون من قسمين:
الاول مودع بحساب الشركة الوطنية للغاز لدى المصرف التجاري العراقي
والثاني لم تقم وزارة الكهرباء العراقية بدفعها و تبلغ حوالي 5-6 مليار دولار.
وكانت إدارة ترامب تضغط على بغداد لمنعها من تسديدها لطهران، إمعانا في خنقها اقتصادياً، مما جعل ايران تقلل مؤقتاً من غازها وكهربائها المصدّر للعراق.
ولكن زوال ترامب الارعن و ظهور ارهاصات تخفيف أو إلغاء الضغوط الأمريكية على ايران وتراخي القبضة الحديدية للبيت الابيض عن القرار العراقي بتسليم هذه الاموال لطهران شجع بغداد على اطلاق سراح الاموال العائدة لايران في بنوكها، وهذا ما جعل الوزير فؤاد حسين يسارع ليبلغ بذلك المسؤولين الايرانيين الذين اجتمع بهم خلال زيارته، لا سيما وان طهران بحاجة ماسة حالياً لأموالها لاستيراد كميات كبرى من اللقاح الروسي لكوفيد-19.
والحق يقال فإن بغداد كانت مقتنعةً وراغبة بتسديد ديونها لطهران لكن الضغوط الكبيرة للسفارة الأمريكية على كل دول العالم ومنها العراق، جعلت بغداد لا تتجرأ على ذلك.
وبتبدل الظروف في واشنطن، ومجيء إدارة جديدة الى البيت الابيض؛ قررت بغداد أداء ما بذمتها من الديون الى طهران، وإعطائها اموالها فهي حقّ لها.
وللعلم فإن الانتهاء من الربط الكهربائي بين العراق والدول الخليجية يستغرق ما لا يقل عن 14 شهراً، ولابد لبغداد من دفع ديونها كي تستمر طهران في تصدير غازها و كهربائها الذي بدأ يشح أحياناً عن تلبية حاجة مواطنيها ،وطفقت الكهرباء تنقطع عن بعض المدن (حتى طهران أحياناً) لكنها مستمرة بتصديره للعراق ايثاراً، و من باب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر/9]
بقلم د.رعد جبارة
دبلوماسي سابق ورئيس تحريرمجلة "الكلمة الحرة"