وقد مثلت المقولة الشائعة (لو قطعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفًا سيدي يا حسين (ع)) مصداقًا لقوة الارادة وثبات الموقف وصلابة العقيدة لدى زوار الامام الحسين عليه السلام، الذين كانوا يقطعون عشرات ومئات الكيلومترات في ظل أوضاع سياسية وأمنية خطيرة للغاية، ناهيك عن الظروف المناخية الصعبة في كثير من الأحيان.
وهناك وقائع وأحداث رافقت مسيرة الأربعين، مثلت رسائل سياسية بليغة ومعبرة، لا يمكن بأي حال من الأحوال نسيانها أو تناسيها مهما طال الزمن وتبدلت الظروف والأحوال.
لا للاستبداد والطغيان
ونحن نقلب أوراق مسيرة الأربعين – اذا تجنبنا الابتعاد كثيرًا نحو الماضي، واقتربنا من التاريخ المعاصر – فإن انتفاضة صفر في عام 1977، التي امتد ميدانها من النجف الاشرف الى كربلاء المقدسة، مثلت رسالة سياسية عميقة ومؤثرة في وقت كانت نزعة الديكتاتورية والاستبداد تترسخ وتتنامي بصورة سريعة لدى النظام الحاكم في العراق حينذاك، ولعل أبرز معالم تلك النزعة تمثلت بمحاربة كل مظاهر الثقافة الاسلامية ببعديها السياسي والاجتماعي.
فالمرحلة التي حدثت فيها انتفاضة صفر، تميزت بتمتع النظام الحاكم حينذاك بعناصر قوة عديدة داخليُا وخارجيًا، مما يعني أن رفع راية المواجهة والتصدي له في ذلك الوقت كان يتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة والجرأة والاقدام وقوة الارادة وصلابة الموقف وتحمل كل تبعات واثار ونتائج ذلك.
وما أعطى لتلك الانتفاضة أهميتها، هو أن واحدًا من أبرز عوامل انتصارها، تمثل بأنها استمدت نهجها الفكري والتضحوي من نهج ثورة الامام الحسين عليه السلام، وهي إنما انطلقت وتفجرت للمحافظة على الارث العظيم والخالد للثورة الحسينية.
وقد يبدو صعبًا على البعض استيعاب معادلات القوة في هذه الانتفاضة، وفق الحسابات المادية المنظورة والمحسوسة، فالنظام الحاكم لجأ الى استخدام كل آلته الحربية من طائرات ومدافع ودبابات وأجهزة امنية قمعية، للتصدي لجموع الزائرين العزل الذين كانوا متوجهين صوب كربلاء الشهادة والفداء والاباء والتضحية والصمود.
وكان الكثيرون قد تصوروا وافترضوا خطأ ان النظام الحاكم نجح في قمع الانتفاضة واطفاء جذوتها، مثلما توهم البعض قبل اربعة عشر قرنا من الزمان ان يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن قد انتصروا على الامام الحسين واهل بيته واصحابه في واقعة الطف، ولو كان النظام الحاكم قد انتصر فعلا لما تفجرت بعد عامين انتفاضة رجب، ولما تفجرت بعد عدة اعوام انتفاضة شعبان، ولما شهد العالم اروع صور البطولة والتضحية من قبل ابناء الشعب العراقي حتى سقوط وانهيار النظام في ربيع عام 2003، مثلما شهد العالم اقبح وابشع صور الظلم والقمع واستباحة الحرمات وانتهاك المقدسات من قبله.
وقبل انتفاضة صفر وبعدها، سلسلة متواصلة من مختلف أشكال القمع والاستهداف والمطاردة والتضييق لزوار الحسين عليه السلام، ولعل شهادات من بقي على قيد الحياة حتى الآن كشفت عن خفايا وحقائق مؤلمة من جانب، ومواقف مشرفة وناصعة من جانب آخر.
لا للتكفير والارهاب
وبعد الاطاحة بنظام صدام (9 نيسان 2003)، اتخذ استهداف مسيرة الاربعين اشكالًا أخرى، كانت الجماعات الارهابية التكفيرية، “القاعدة” ومن ثم “داعش”، وبقايا النظام السابق، وأجهزة المخابرات الخارجية، والوجود الأجنبي، أبرز الأدوات والمحركات الجديدة له، وحلت السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والانتحاريون بدلًا عن المؤسسات والأجهزة القمعية للنظام السابق، وقد شهدت الأعوام الأولى بعد سقوط الأخير، الكثير من العمليات الارهابية التي طالت الزائرين في داخل كربلاء وخارجها، وأدت الى استشهاد العشرات إن لم يكن المئات، بيد أن ذلك لم يوقف مسيرة الأربعين ولم يضعفها، بل على العكس من ذلك تمامًا، زادها قوة وتفاعلًا وتوسعًا واتساعًا، وتصاعدت أرقام الزائرين ومواكب الخدمة عامًا بعد عام خير شاهد ودليل.
رسالة الأربعين الى مدرسة التكفير بشتى عناوينها ومسمياتها وسلوكياتها وممارساتها، مفادها أنه مثلما انتصر الدم على السيف قبل أربعة عشر قرنًا، فإن مصاديق ذلك الانتصار تتجلى في كل زمان ومكان انطلاقا من حقيقة (كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء)، ما دام هناك من يتبنى منهج الحسين(ع) وفكره وأخلاقه ومبادئه.
لا للتطبيع والانهزام
الرسالة السياسية الأخرى لمسيرة الاربعين، أطلقها الحسينيون هذا العام ضد مشاريع التطبيع والخنوع والانهزام أمام الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الاميركية، التي راح بعض الحكام العرب يلهثون وراءها دون مقابل.
حملة (رحماء بينهم) الانسانية-الاجتماعية، ترجمت هذه الرسالة بوثيقة مفتوحة برفض التطبيع، ترك عشرات الالاف من زوار الاربعينية تواقيعهم عليها، وبوضع علم الولايات المتحدة الاميركية على الارض ليطأه الزوار بأقدامهم، في اشارة الى رفض الوجود الاميركي في العراق والمطالبة بإنهائه.
وفي معرض التعليق والتوضيح لاهداف ودلالات وابعاد هذه المبادرة، يقول مسؤول حملة (رحماء بينهم) كرار محبوبة، “لقد تنوعت وتعددت دلالات حملة رفض التطبيع وحملة اخراج القوات الامريكية، ويمكن تلخيصها في النقاط الاتية:
- ان الزيارة الاربعينية لا تختزل بالجانب الديني العاطفي فقط، فهي فضلا عن ذلك تعتبر منبرا حرا لتوجيه رسائل سياسية واجتماعية واخلاقية الى العالم اجمع.
- ان الشعب العراقي شعب حسيني حر لا يساوم على حساب المبادئ والثوابت، وان مهزلة التطبيع مع الكيان الصهيوني ان حدثت في بعض البلدان العربية فهي لا يمكن ان تحدث بأي شكل من الاشكال في العراق، وان من يسعى ويضغط بهذا الاتجاه انما يوهم نفسه بضرب من ضروب الخيال.
- ان الشباب العراقيين بمختلف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية على اهبة الاستعداد للتصدي لكل من تسول له نفسه مجرد الترويج لفكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهؤلاء الشباب، وان كانوا يسلكون الطرق السلمية في رفض مفهوم التطبيع، فإنهم مستعدون لحمل السلاح وبذل الارواح في حال اقتضى الامر.
- توجيه رسالة مفادها ان الشعب العراقي يقف بقوة مع شقيقه الشعب الفلسطيني ومع كل الاحرار في المنطقة والعالم برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب”.
ويؤكد مسؤول الحملة-المبادرة، ان حجم التفاعل كان كبيرا جدا، من قبل مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، كالنساء والشباب والشيوخ والنخب الاجتماعية والثقافية المتنوعة.
الى جانب ذلك، فإن مسيرة الاربعين شهدت هذا العام فعاليات عديدة لاستذكار الشهيدين القائدين، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشهيد ابو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني. ومثل هذه الفعاليات، هي في الواقع مثلت رسالة رفض للوجود الاميركي والاصرار على طي صفحته الى الابد.
ولا شك أن من يدقق ويتأمل في هذه الرسائل، يجد أن كل واحدة منها تكمل الأخرى، لتصوغ بمجموعها المواقف المبدئية الشاملة حيال قضايا محورية تشكل الأطر العامة لعملية الاصلاح والبناء الحقيقي السليم للدولة والفرد والمجتمع.
بقلم / عادل الجبوري