هذه العقوبات تستهدف إيران لأنها تقف في خندق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للمقدسات العربية والإسلامية في مدينة القدس المحتلة، ولو كانت الحكومة الإيرانية تفرش السجاد الأحمر لنتنياهو، ووزير دفاعه إفيغدور ليبرمان، وفرق الجمباز والجودو للعب على أرضها وتعزف النشيد الوطني الإسرائيلي لكانت الصديق الحميم لأمريكا واللوبي اليهودي فيها، والزعيمة المتوجة بدرر وزارة الخزينة الأمريكية.
الرئيس ترامب بفرضه الحصار التجويعي على الشعب الإيراني ينفذ أجندات إسرائيلية بحتة، تماما مثلما فعل سلفه الجمهوري جورج بوش الابن مع العراق، ولكن فرص نجاح هذا الحصار ضعيفة، إن لم تكن معدومة، وإعفاء ثماني دول من الالتزام بها مثل الصين والهند واليابان وتركيا هو الدليل الأبرز على فشلها، لأن هذه الدول أعلنت نواياها المسبقة، وبكل شجاعة بأنها ستستمر في شراء النفط الإيراني دون أي تأخير، مثلما استمرت في التجارة مع طهران رغم حزمة العقوبات الأولى غير النفطية.
نتمنى على إيران، شعبا وحكومة، أن لا تقدم أي تنازلات للحلف الأمريكي الإسرائيلي، وأن تصمد في وجه هذا الحصار، وأن تستفيد من التجارب العربية المؤسفة في العراق وليبيا، لأن مسيرة التنازلات إن بدأت فلن تتوقف إلا بالغزو والاحتلال، ونحن على ثقة بأن القيادة الإيرانية التي دوخت الدول العظمى الست أثناء المفاوضات النووية تعي جيدا هذه الحقيقة.
ترامب يخشى إيران، لأنها دولة قوية، تملك ترسانة من الصواريخ والعتاد العسكري الذي يمكن أن يدمر حلفاءه، وقواعده وقواته في منطقة الخليج (الفارسي)، ولهذا يلجأ إلى الحصار على أمل أن يثور الشعب الإيراني ضد حكومته، وبما يؤدي إلى إسقاط النظام، وينسى الرئيس الأمريكي أن هذا البلد عاش تحت الحصار أربعين عاما ولم يرفع رايات الاستسلام البيضاء، ولا يخامرنا أي شك بأنه لن يرفعها.
لن نتحدث بلغة الأرقام، وبراميل النفط، وإنما بلغة العقل والمنطق، فإذا كانت "الدولة الإسلامية" أو "داعش" استطاعت أن تجد مشترين لنفطها البدائي العكر، فهل ستعجز إيران في هذا الميدان (واعذرونا على المقارنة التي ليست في محلها مطلقا)؟ وإذا كانت كوريا الشمالية استطاعت أن تطور أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات قادرة على حملها والوصول إلى العمق الأمريكي رغم الحصار التجويعي الخانق وغير المسبوق، فهل ستعجز إيران عن الصمود، وربما الرد أيضا؟
الشعب الفلسطيني البطل الأعزل في قطاع غزة صمد أكثر من عشرة أعوام في مواجهة حصار خانق فرضته إسرائيل وحلفاؤها العرب، وواجه ثلاثة "عدوانات" إسرائيلية نجح خلالها في إرسال ثلاثة ملايين مستوطن إسرائيلي إلى اللجوء إلى الملاجئ خوفا ورعبا، وعطلت صواريخ المقاومة "البدائية" الملاحة في مطار تل أبيب لأكثر من 18 ساعة، وهذا الشعب البطل كان يعيش على نصف وجبة في اليوم، وساعتين من الكهرباء يوميا، مغلقة كل المعابر في وجهه، فكيف سيكون حال الشعب الإيراني الذي يعيش في قارة ويأكل ما يزرع، ويلبس ويقاتل بما يصْنع؟
أكثر ما يخشاه الاسرائيليون ووكلاؤهم الأمريكان، وحلفاؤهم العرب، الجدد والقدامى، هو فصائل المقاومة التي رعتها إيران و"سمنتها" انتظارا لليوم "الأبيض"، ونحن نتحدث هنا عن "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، التي تحاصر دولة الاحتلال شمالا وجنوبا، وأذرعها الصاروخية الضاربة، هذه الأذرعة، و"حزب الله" تحديدا، هي التي تحمي إيران وليس العكس، وهي التي ستجعل إسرائيل وأمريكا تفكر ألف مرة قبل إطلاق رصاصة واحدة على طهران.
إيران القارة الوعرة ستمتص الضربة الأمريكية الأولى، ولكن هل ستنجح إسرائيل وحلفاؤها العرب في امتصاص الردود الانتقامية الأولى من سوريا و"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد"؟ هل يستطيع هؤلاء أن يواجهوا آلاف الصواريخ التي ستنهال عليهم من كل الاتجاهات؟ فإذا كانت صواريخ "الباتريوت" فخر الدفاعات الجوية الأمريكية فشلت في وقف صواريخ الحوثيين الباليستية، فهل ستنْجح في وقف آلاف من صواريخ "حزب الله" الأكثر تقدما ودقة، عندما تنطلق دفعة واحدة وبالعشرات، وربما المئات؟
السيد حسن روحاني كشف بالأمس أن أربع دول عرضت عليه أثناء وجوده في نيويورك التوسط لعقد لقاء يجمعه مع دونالد ترامب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ورفضها جميعا... هذا الرجل يرفض هذه العروض لأنه يقف على أرض صلبة، ويعتمد على شعب أكثر صلابة، ولا ترهبه أمريكا، ومن يقول غير ذلك لا يعرف شيئا اسمه الكرامة وعزة النفس، وإرادتي الصمود والمقاومة.
مرة أخرى نقول، وبكل وضوح، عندما يعتبر نتنياهو بدء فرض الحصار على إيران يوما تاريخيا، فإن خيارنا بات سهْلا جدا، وهو الوقوف في الخندق الآخر المقابل ودون أي تردد... والحياة وقفة عز.
عبد الباري عطوان
رأي اليوم