خصوصاً بعد ارتكابهم لجريمة القرن باغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المُهندس، وتكون هذه الجريمة التي أشعلت الأرض من تحت الجنود الأمريكيين الذي اتخذوا مُحاربة تنظيم داعش الإرهابي شمّاعة لوجودهم هناك، على الرّغم من أنّ الحشد الشعبي وبعد فتوى المرجعية هي من قامت بالوقوف بوجه ذلك التنظيم الإرهابي، واليوم وبعد أن أصبحت حياة الجنود الأمريكيين هناك لا تُطاق قرروا الانسحاب من أبرز قواعدهم في العراق (قاعدة التاجي) وتركها للعراقيين، لكن السؤال الذي يبرز هنا هو أين ذهبت القوّات الأمريكيّة، وهل فعلاً انسحبت من العراق بشكلٍ كامل، أمّ أنّ ما جرى لا يعدو كونه عملية إعادة انتشار؟
إعادة انتشار بطعم الهزيمة
جُلُّ ما باتت تتمناه قيادة القوّات الأمريكية في العراق أن تتوقف صواريخ المُقاومة عن دك قواعدهم العسكرية، وعلى هذا الأساس يمكن قراءة المشهد بوضوحٍ أكبر، حيث أنّ ما قامت به القوّات الأمريكية ليس أكثر من عملية إعادة انتشار للجنود الأمريكيين في العراق، والهدف من هذه العمليّة هو الابتعاد عن صواريخ المُقاومة التي باتت تفتك بالجنود الأمريكيين، ومع هذه الصواريخ بات وجود هذه القوّات شبه مُستحيل في قواعدهم الحاليّة.
وبات من الواضح أنّ بقاء تلك القوّات تحت رحمة الصواريخ التي لا يستطيعون معها صبراً تُشكّل مصدر قلق بالغ بالنسبة للجنود الموجودين الذين باتوا يخشون على حياتهم وأن يعودوا إلى ذويهم بتوابيت خشبية، خصوصاً وأنّ البنتاغون ومن خلفه ترامب يُصرّون على بقاء القوّات الأمريكية في العراق، ليكون الخيار الأمثل بالنسبة لهم تغيير مواقعهم وإعادة نشر تلك القوّات علّها تُصبح في مأمن من صواريخ المُقاومة العراقيّة.
أكثر من ذلك؛ تُحاول القوّات الأمريكية أن تبدو غير مرئية بالنسبة للعراقيين، وعلى هذا الأساس باتت قيادة تلك القوّات تُغادر المُدن والقرى العراقيّة ابتعاداً عن استفزاز العراقيين بوجود هذه القوّات بين ظهرانيهم، وهنا كان القرار الأمريكي بضرورة ترك المُدن والقرى وكافة التجمعات السكانية والابتعاد عن أعين النّاس.
أكثر من ذلك يبدو الغضب الأمريكي واضحاً من هذه الهزيمة من خلال رفضه دخول وسائل إعلام المُقاومة، ومنعه تلك الوسائل من تغطية الانسحاب الأمريكي، الأمر الذي يشي بكميّة الألم الذي سببته تلك الوسائل للأمريكيين نتيجة تغطيتها لكافة عمليات المُقاومة.
هُروب مُنظم
كاذبة تدعي قيادة القوّات الأمريكية أنّ عملية الانسحاب هذه كان مُخطط لها منذ ثلاث أعوام، ولو كان ذلك، فلماذا لا تزال موجودة إلى الآن؟ من الواضح أن تصريحات الأمريكيان الحاليّة بخصوص عملية إعادة الانتشار هذه تأتي من باب حفظ ماء الوجه، حيث أتت هذه التصريحات وسط مؤشرات على أن الوجود العسكري الأمريكي يزداد صعوبة في العراق، على الأقل في شكله الحالي، في تداعيات مقتل الجنرال سليماني وصديقه أبو مهدي المهندس في غارة جوية أمريكية غادرة بطائرة مسيرة قبل حوالي ستّة أشهر.
بالإضافة لما سبق؛ يبدو أنّ عملية إعادة الانتشار هذه تأتي بهدف تخفيف التوتر بين العراقيين والجنود الأمريكيين الموجودين في العراق، بعد أن بات العراق ساحة موجهةٍ أماميّة لأمريكا، وهو الأمر الذي لن يُرضي العراق، وحتى إعادة نشر تلك القوّات في قواعد أخرى أتى بعد تقديم ضمانات كما يقول مُراقبون بأن لا تستخدم القوّات الأمريكية الساحة العراقية لتنفيذ سياساتها في المنطقة، وأن لا يكون العراق قاعدة انطلاق لتلك القوّات لمهاجمة أيّ دولٍ أخرى من دول المنطقة، خصوصاً بعد أن تحوّلت أولويّة السياسات الأمريكيّة من هزيمة تنظيم داعش الإرهابي إلى حملة للضغط على الجمهورية الإسلامية الإيرانية والحكومة السوريّة.
وفي النهاية؛ وبعد الخسائر الأمريكية المُتوالية في المنطقة ابتداءً من أفغانستان التي تذوقت القوّات الأمريكية فيها طعم الخسارة، ووصولاً إلى سوريا التي وصف وجود قوّاته انتحار حيث يقول: "لا أريد البقاء في سوريا للأبد، إنها رمل وموت"، وعلى هذا الأساس بات من الضروري للقيادة الأمريكية أن تُبقى في المنطقة، هنا ولم يجد ترامب وجنرالاته مكاناً أفضل من العراق، في محاولته لإبقاء سيطرته على المنطقة فموقع العراق الاستراتيجي يُخوّل الأمريكيين في حال بقائهم هناك السيطرة على كل المنطقة، بالطبع هذا ما يُريده الأمريكيون، لكن هل ستسمح المُقاومة العراقية للقوات الأمريكية بالبقاء في العراق واستفزاز دول الجوار، أو استخدام العراق كقاعدة انطلاق لمهاجمة باقي دول المنطقة، بالطبع لا، ومن المُنتظر أن تستمر الحرب غير المُعلنة بين الجانبين حتى خروج آخر جندي أمريكي من العراق، وبغير الانسحاب الكامل لن ترضى قوّات المُقاومة.
المصدر: الوقت