مُؤلمٌ أن يُهلّل البعض لهذا الاتّفاق ويُحاول تبريره والقول بأنّه “تاريخي” ويُمثّل عصرًا جديدًا للعالم العربي، فهل بيع فِلسطين تطبيقًا لصفقة القرن، والتّنازل عن القدس وأقصاها، والخُروج عن كُل الثّوابت العربيّة والإسلاميّة، يوم تاريخي؟ وهل تتويج "إسرائيل" زعيمة العرب السنّة بحُجّة مُواجهة آيران يُشكّل عهدًا جديدًا؟ وخطوةً رئيسيّةً على طريق السّلام العادل؟ أيّ سلام عادل في اتّفاق لم يَذكُر القدس أو الدولة الفِلسطينيّة، أو حتى المُبادرة العربيّة على سُوئها؟ نرجوكم احترموا عُقولنا إذا لا تُريدون احترام مشاعرنا.
نعم هذا الاتّفاق الاماراتي الإسرائيلي سيقود إلى سلامٍ دائمٍ للقضيّة الفِلسطينيّة، أي تصفيتها بشكلٍ نهائيّ، ولعلّ نِتنياهو كان الأكثر تعبيرًا عندما قال إنّهم يُطبّعون معنا لأنّنا أقوياء وهُم ضُعفاء، ووفق صيغة السّلام مُقابل السّلام، ولكنّه يتحدّث هُنا عن عربٍ يُطبّعون أو سيُطبّعون معه، وليس عن العرب الآخرين المُقاومين الذين جعلوه يهرب مِثل الفأر للنّجاة بحياته بعد هُطول الصّواريخ القادمة من قِطاع غزّة مِثل المطر فوق رأسه ومُستوطنيه في مدينة إسدود عندما كان يُلقي خِطابًا انتخابيًّا في أنصاره.
كان بعضنا يدفع الجزية لواشنطن والرئيس ترامب، نقدًا أو على شكل صفقات أسلحة مُقابل الحماية، والآن سيدفع هذا البعض نفسه وفي دول الخليج (الفارسي) خاصّةً، الجزية إلى دولة الاحتلال أيضًا، مِن مُنطلق الخوف والرّعب، وسعيًا للغرض نفسه، أيّ “الحماية” من خطرٍ مزعوم.
نعرف أنّ كُل من نِتنياهو ترامب المأزومين خرَجا فائزين من هذا الاتّفاق ولو مُؤقّتًا، ولكن ما هي المكاسب التي حقّقتها حُكومة دولة الإمارات من وراء توقيعه، وهي الدولة النفطيّة الثريّة، والمُوقّعة مُعاهدات دفاع مُشترك مع فرنسا وأمريكا وبريطانيا، وتوجد على أرضها قواعد عسكريّة لها، والتقى وزير خارجيّتها قبل أسبوع بنظيره الإيراني بشكلٍ ودّيّ وفي إطار تحسّنٍ مُتسارعٍ في العُلاقات بين البلدين؟
الدول توقّع اتّفاقات سلام بعد حروب أو توتّرات مع الأعداء، فهل كانت دولة الإمارات في حالِ حربٍ مع “إسرائيل” وخاضت حُروبًا ضدّها ونحنُ لا نعرف؟
نفهم لو أنّ أحوال الدول التي وقّعت اتّفاقات ومُعاهدات سلام مع “إسرائيل” في الذّروة، وجنت ثمارًا اقتصاديّة وعسكريّة وتكنولوجيّة من جرّاء هذه الخيانة، ونحن نتحدّث هُنا تحديدًا عن مِصر والأردن ومنظمة التحرير الفِلسطينيّة، ولكنّ أوضاع هذا المثلّث في قمّة السّوء، "فإسرائيل" كافأت مِصر بدعم سد النهضة وحمايته عسكريًّا، وتستعدّ لضمّ غور الأردن وسرقة مياهه وأراضيه الزراعيّة، تأكيدًا على حُسن الجِوار مع عمّان، أمّا السلطة الفِلسطينيّة التي كانت وكيلًا للتّرويج للتّطبيع وسجّلت سابقة التّنسيق الأمنيّ فحالها يَصعُب على الكافر.
شُكرًا للدكتور أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجيّة الإماراتي الذي طمأننا بأنّ السفارة الإماراتيّة لن تُقام في القدس المحتلّة، وإنّما في تل أبيب أو “أبو ديس”، وهذا موقفٌ “وطنيٌّ” يُحسَب له.
أحببنا الإمارات، وملايين العرب والمُسلمين مثلنا، عندما كانت قِبلة العُروبة، والنّاصر المُتميّز لقضايانا العربيّة، ويتزعّمها رجلٌ عُروبيٌّ فاضل يَقِف في خندق المُقاومة، وأطلق صرخته التاريخيّة أثناء حرب 1973 عندما أغلق صنابير النّفط قائلًا “النّفط ليس أغلى مِن الدّم”.
الآن فقط تأكّدنا مِن الأسباب التي أدّت إلى مُؤامرات تدمير العِراق وليبيا واليمن وسورية، وتجويع الشّعب الفِلسطيني، وتزيين الخيانة لمنظّمة التحرير، وتسميم قائدها المؤسّس الذي أراد أن يُكفّر عن خطيئة أوسلو بإشعال فتيل المُقاومة.
مِن رَحِم هزيمة لبنان عام 1982 انطلقت المُقاومة الإسلاميّة، ومن رَحِم هزيمة حزيران 1976 انبثقت المُقاومة الفِلسطينيّة، ومن قلب مُؤامرة كامب ديفيد الثّانية عام 2000 لتركيع القِيادة الفلسطينيّة انطلقت الانتفاضة المسلّحة الثّانية في فِلسطين المحتلّة.
هذه الأمّة ولّادة، وعقيدتها صُلبة، وشُعوبها مِعطاءة تملك رصيدًا ضخمًا من الانتصارات، وإرثًا حضاريًّا هو الأضخم في المجالات كافّة، قد “تتوعّك” ويتطاول عليها بُغات الطّير، ولكنّها ستنهض حتمًا وتنتفض.. والأيّام بيننا.
بقلم:عبد الباري عطوان
المصدر: رأي اليوم