أليس السبب هو الغزو الفكري وغسيل الدماغ وفقدان الهوية والتعلق بالقشور الدنيوية والمصالح المادية ومزايا اللاجئين في اوروبا وأمريكا وكندا؟
مؤخراً؛ انبرى كاتب عراقي يقطن في كندا لاجئاً فيها منذ أكثر من ٢٠ سنة لكيل المديح لكندا والثناء على معاملتها والإطراء لحضارتها وإبداء الإعجاب باحترامها للإنسان والإنسانية!! حتى لكأنك تخاله (رومان برودي) يتكلم عن مزايا حضارة بلده كندا ويتباهى بثمار تلك الحضارة للإنسانية جمعاء!!
إن استلاب الهوية للفرد المغترب، والذوبان التام في مجتمع اللجوء من قبل اللاجئ يصل إلى حد يذكرني بالحكمة رقم 9 في "نهج البلاغة": قال عليه السلام: "إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ".
يقول الكاتب المغترب، الساكن في "وندسور" الكندية "من خلال تجربتي الكندية اعتقد أن الحضارة الغربية تؤمن بالتعددية الدينية والفكرية فكان الى جنب بيتي في وندسور التابعة لولاية اونتاريو معبد وثني وعلى بعد 5 كم حسينية الامام الحسين للطباطبائي والى جواري جامع تابع لتيار المستقبل.
وأضاف، في اربعين الامام الحسين كانت الشرطة الكندية تحمي تظاهراتنا ومسيراتنا الحسينية على امتداد شارع "اوليت". سؤالي: لو جاء الكنديون الى بلادنا واحتكوا بقيم حضارتنا هل كنا سمحنا لهم باقامة طقوسهم الدينية والفكرية؟ أعتقد ان الاسلام الذي يسمح للاخر بالتعبير عن هويته لم يولد بعدُ وكل التجارب التي نتحدث عنها تكهنات فكرية غير واقعية... قيم الغربية أَرحَبُ لأنها استبعدت الجانب الفقهي الذي يسمي الآخر ويؤطّره فيما القيم الحضارية العربية تسمي و تؤطر".
هذا الطعن في الإسلام والشغف والإنبهار بكندا وحضارتها وسياساتها مؤلم ومؤسف، لأنه يتنكر لقيم الحضارة الإسلامية التي أرسى إرهاصاتها ووضع أسسها النبي الخاتم؛ رسول القيم الإنسانية بحيث لم يأمر جيشه بهدم الكنائس والتعرض للقساوسة والرهبان أو حرق الإنجيل وقتل النصارى ولا إيذاءهم، بل سمح النبي(ص) لوفد نصارى نجران بالدخول إلى مسجده ورحب بهم واقترح عليهم التفاهم والمباهلة وعاملهم بالحسنى والقضية معروفة لا داعي لسرد تفاصيلها.
وقد رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ)، فَقَالَ لَنَا: "قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ". قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ(ص): "كَيْفَ أَنْتَ يَا فُلَانُ؟"، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ فِي الثَّالِثَةِ: يَا بُنَيَّ اشْهَدْ. فَشَهِدَ، فَقَالَ(عليه السلام): "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْتَقَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ". انتهى من (نصب الراية) للزيلعي. فَأَرَادَتْ الْيَهُودُ أَنْ تَلِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص): "نَحْنُ أَوْلَى بِهِ". وَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ(ص)، وَكَفَّنَهُ، وَحَنَّطَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ حسبما رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي (كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ).
بل إن القرآن الكريم يخصص سورة كاملة بإسم (سورة مريم) ويثني عليها وعلى عيسى والمسيحيين ثم يقول في سورة أخرى:
{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82).
أليس روي عن النبي الكريم هذا الحديث الصحيح: "من آذى ذمياً فقد آذاني ومن آذاني كنت خصمه يوم القيامة".
وفي رواية الخطيب عن ابن مسعود: "من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة". وفي المقاصد الحسنة حديث آخر يقول(ص): "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة. قال السخاوي: وسنده لا بأس به. وللعلم فأن هناك أحاديث عديدة وصحيحة وأقوى في هذا المعنى، منها قوله: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً".
وحالياً ها نحن نرى كنائس المسيحيين عامرة في الدول العربية والإسلامية يرتادها المسيحيون أيام الأحد، نساءً و رجالاً، بكل حرية، وفي مطلع السنة الميلادية يعقدون احتفالات بميلاد السيد المسيح(ع) وفي باقي الأعياد دون وجل أو تردد، بل يشاركهم المسلمون بفرحتهم.
أليست هذه من ثمار وركائز وقيم حضارتنا الإسلامية فلماذا يتجاهلونها ويتنكرون لها وينبهرون بحضارة كندا والغرب الذي يبيع السلاح لقاتلي المسلمين والعرب في العراق واليمن وسوريا وايران، وينتهك مشاعر العرب والمسلمين، ويقتل رموزهم بيده وأيدي عملائه كأبي مهدي المهندس والفريق سليماني واللواء صياد شيرازي وعماد مغنية وحسين بدر الدين الحوثي وعباس الموسوي وراغب حرب وأحمد ياسين ومروة الشربيني والبروفيسور الفاروقي وباقر النمر؟
أليست الدول والحضارة الغربية هي التي تقف وراء وعد بلفور واغتصاب فلسطين وتأسيس الغدة السرطانية (اسرائيل) وحرب الإبادة الجارية على اليمن، وتأسيس وتسليح وتموين القاعدة وداعش وقيامها بمجازر أفغانستان، وتفجير مرقد الامامين العسكريين(عليهما السلام)، واحتلال أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، والحرب الداخلية في سوريا ومآسي لبنان، والفيتو الأمريكي المتوالي ضد القضايا العربية والاسلامية، وقتل العراقيين بصواريخ أميركا وحلف الناتو، والحصار الأمريكي على الشعبين الإيراني والسوري؟؟
د.رعد هادي جبارة
باحث ودبلوماسي سابق