من المفارقة أن المملكة العربية السعودية عقدت مؤتمر الاستثمار الدولي، أو "دافوس الصحراء" في فندق الريتز كارلتون الذي احتجز فيه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، حوالي 350 من رجال الأعمال السعوديين بينهم حوالي 13 أميرا، أبرزهم الوليد بن طلال، الملياردير المعروف، وتردد أنه أجبرهم على دفع حوالي 30 مليار دولار من أموالهم وأصولهم اتهموا بجمعها عبر عمليات تجارية شابها الفساد.
دول عربية عديدة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا ألغت مشاركة وزراء ماليتها في هذه الفعالية احتجاجا على الدور السعودي الرسمي في اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، ولكن وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين الذي قال أنه ألغى مشاركته وصل إلى الرياض والتقى الأمير بن سلمان، وبحث معه كيفية تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين.
مخاوف الرئيس دونالد ترامب من احتمال حصول الصين وروسيا على صفقات تجارية ضخمة من السعودية بعشرات المليارات من الدولارات يبدو أنها غير مستبعدة، فقد كان حضور شركات ووفود من البلدين طاغيا على المؤتمر ولا نستبعد أن يكون وزير الخزانة الأمريكي في الرياض ولقائه بالأمير بن سلمان جاء لبحث هذه المسألة، وضمانة صفقات الأسلحة الأمريكية التي تقدر بحوالي 110 مليار دولار هذا العام فقط.
***
الرئيس بوتين الذي كان الأقل تعاطفا مع مقتل الخاشقجي، يريد القبول بالرواية الرسمية السعودية والاسترشاد بالمعلومات الرسمية المتعلقة بهذه الجريمة والتي تؤكد على عدم ضلوع إفراد العائلة الحاكمة، والأمير محمد بن سلمان تحديدا في أي من فصولها.
صك البراءة الروسي هذا يهدف إلى الوقوف مع السعودية في مواجهة أخطر أزماتها، على أمل الحصول على حصة كبرى من الصفقات التجارية والتسليحية خاصة أن الأمير بن سلمان زار موسكو أكثر من مرة، وعبر عن اهتمامه بشراء صواريخ "إس 400" الروسية، وحوالي 15 مفاعلا نوويا للأغراض السلمية، ولعله الآن، وهو الذي شارك في هذا المؤتمر الاقتصادي، وقدمه على جلسة مجلس الوزراء التي غاب عنها، ويريد أن يوجه رسالة لأمريكا بأن البلدين الروسي والصيني جاهزان.
الكاتب السعودي تركي الدخيل المقرب من الأمير بن سلمان غرد بقوله أن الرد على أي عقوبات أمريكية على السعودية سيكون بإقامة قاعدة روسية في تبوك (شمال غرب السعودية) وشراء صواريخ وطائرات حربية روسية، ولكن السلطات السعودية تبرأت من هذه "التغريدة"، وتنصلت من مضمونها.
رئيس الوزراء الباكستاني الجديد عمران خان الذي قدم نفسه على أنه نصير الفقراء، وبشر بسياسة باكستانية خارجية مختلفة تنهي تبعية بلاده إلى أي محاور إقليمية، لخص حال المشاركين في المؤتمر الاقتصادي المذكور بقوله "أنه يأسف لمقتل الخاشقجي... ولكن بلاده بحاجة إلى المال ولهذا شد الرحال إلى الرياض"، في حديث أجرته معه صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، وقد كان محقا وكوفئ على هذه الزيارة والمشاركة بـ 3 مليار دولار، مثلما أعلنت السعودية اليوم.
قلناها، ونكررها، المال والصفقات تتقدم على حقوق الإنسان وقيمتها، ولهذا هرول الكثيرون للمشاركة في هذا المؤتمر، واستغلال غياب مسؤولين ورؤساء بنوك وشركات غربية للمشاركة فيه، والحصول على شريحة من الكعكة المالية السعودية.
لا نعرف من أين ستأتي القيادة السعودية بمئات المليارات التي يمكن أن ترضي كل هؤلاء الذين يقدمون قصعة تسولهم إليها، فالاحتياطات المالية التي كانت تقدر بحوالي 750 مليار دولار قبل أربعة أعوام تبخرت أو معظمها، بسبب الاتفاق التسليحي الكثيف، وحرب اليمن التي تكلف الخزانة السعودية ما يقرب من 9 مليارات دولار شهريا، حسب تقرير لمعهد بروكنغز الأمريكي الشهير، والعجوزات في الميزانية السعودية التي تقدر بحوالي 90 مليار دولار في المتوسط طوال السنوات الثلاث الماضية.
***
الأمير محمد بن سلمان الذي يريد أن يجعل من السعودية أكبر قاعدة استثمارية في العالم كان يراهن على تخصيص نسبة من شركة "أرامكو"، ولكن هذه العملية تأجلت أو ألغيت، لأن ترامب يريد أن تكون أموال هذه الخصخصة مستثمرة في السوق المالي الأمريكي، أو بورصة "وول ستريت" في نيويورك، الأمر الذي لا يطمئن السعوديين، فهذه الأموال معرضة للتجميد في أي لحظة خاصة إذا تم تفعيل قانون "جيستا" أو تم فرض عقوبات اقتصادية على السعودية.
المضي قدما في عقد مؤتمر الاستثمار في الرياض ومشاركة الأمير ين سلمان فيه المتهم من قبل كثيرين بالوقوف خلف عملية اغتيال الخاشقجي، جاء للتأكيد بأنه باق في مكانه حاكما فعليا للسعودية، وأن الأمور تسير على ما يرام "ويا دار ما دخلك شر".
مجيء خطاب أردوغان أمام البرلمان اليوم خاليا من أي أدلة جديدة موثقة، وعدم الكشف عن جثمان الضحية ومكانه، ليكشف عن احتمالات حدوث "صفقة ما" دائمة أو مؤقتة.. والله أعْلم.
عبد الباري عطوان