الطعنة المسمومة في الظهر المصري جاءت من "الحليف" الأميركي، والذي رعى أربعة اشهر من المفاوضات في واشنطن بين وزراء خارجية وري الدول الثلاث المعنية (مصر، السودان، واثيوبيا) وبحضور صندوق النقد الدولي، فهذا الحليف الذي من المفترض ان يكون "محايدا" صمت صمت القبور على مقاطعة الوفد الاثيوبي الجلسة الأخيرة للمفاوضات التي كان من المفترض ان تشهد توقيعا ثلاثيا لمشروع اتفاق نهائي يرضي جميع الأطراف، (وقعته مصر فقط)، ولم يمارس الراعي الأميركي أي ضغوط او حتى انتقادات لهذه المقاطعة الاثيوبية.
هناك نظرية تقول بأن اميركا، واستجابة لطلب إسرائيلي، هي التي شجعت اثيوبيا على المقاطعة، بدليل ان مايك بومبيو وزير خارجيتها زار اديس ابابا قبل انعقاد جولة المفاوضات الأخيرة بثلاثة أيام، واعلن من هناك ان توقيع الاتفاق وتنفيذه قد يتأجل لعدة اشهر.
نعترف بأننا نحن الذين نؤمن بالوحدة العربية، والرابطة الإسلامية، لم نفاجأ كثيرا بالموقف الأميركي، فأميركا لا تكن للعرب سواء كانوا من حلفائها او من اعدائها الا الاحتقار وتعتبرهم اغبياء ومشروع "حلب"، ولكننا فوجئنا بموقف الحكومة السودانية التي "تحفظت" في الجامعة العربية على "مشروع قرار مصري يؤكد على حقوق مصر المائية التاريخية في مياه النيل ويرفض أي إجراءات أحادية اثيوبية"، فماذا يضير هذه الحكومة لو أيديته مثل جميع الدول العربية الأخرى؟
المفاجأة الأكبر كانت من خلال الردود التي وصلت الينا في صحيفة "راي اليوم" من اكثر من 250 قارئا من مجموع مئة الف قارئ لمقال نشرناه في هذا الصدد، علاوة على عشرات المكالمات المؤيدة جدا، كانت تتحدث في معظمها عن حق السودان في إعطاء الأولوية لمصالحه الاقتصادية، وهي في هذه الحالة مع اثيوبيا، لان السد يوفر له حاجته من الكهرباء بسعر منخفض جدا، ويقضي على الفيضانات المدمرة للمحصول الزراعي، ويتساءل معظم القراء والمتصلين عن ما قدمته مصر للسودان، ويتحدثون عن معاملة مصرية متعالية لمواطنيهم، والسيطرة بالقوة على مثلث حلايب وشلاتين، ونسيان تضحية السودان بمنطقة حلفا التي غمرتها مياه السد العالي وبحيرة ناصر داخل الحدود السودانية.
لا نستبعد ان يكون هؤلاء، او نسبة منهم، من الجيش الالكتروني السوداني، وربما من جيوش أخرى عربية او غير عربية، تريد اشعال فتيل الفتنة بين مصر والسودان وقطع وشائج روابط الجوار والعقيدة بين البلدين، ولكنها في جميع الأحوال، مسألة مهمة يجب ان تضعها الدبلوماسية المصرية في عين الاعتبار.
صحيح ان مصر تستضيف اكثر من خمسة ملايين سوداني تعاملهم معاملة الشقيق، بل والمواطن، ولا تمارس أي تفرقة ضدهم، مثلما قالت رسائل مصرية "نادرة"، ولكن في ظل تعرض مصر لمؤامرة أميركية إسرائيلية لحرمانها من حقوقها وضرب امنها المائي الوجودي، لا بد من اليقظة والوعي، والتحرك بسرعة وكفاءة على كافة الجبهات.
كان لافتا بالنسبة الينا ان الرئيس عبد الفتاح السيسي ترأس اجتماعا رفيعا في مقر وزارة الدفاع حضره قادة الاسلحة الجوية والبحرية والبرية والمخابرات الحربية، عقب اتصال هاتفي بينه وبين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فهل تخلى الرئيس ترامب في هذا الاجتماع عن رعايته للمفاوضات، وتبنى الموقف الاثيوبي، الامر الذي صدم الرئيس المصري ودفعه للبحث في خيارات أخرى؟
ما يجعلنا نميل الى هذا الاعتقاد، أي اليأس من المفاوضات والرعاية الاميركية لها معا، ان اللجنة العليا لمياه النيل في مصر عقدت أيضا اجتماعا طارئا برئاسة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لتقييم الموقف الحالي من مفاوضات سد النهضة، على ضوء المواقف الاثيوبية الأخيرة، شارك فيه وزير الري، والى جانب ممثلين عن وزارات الدفاع والخارجية والموارد المائية، والمخابرات العامة، وناقشت اللجنة في اجتماعها الاحد خطط التحرك المصري من اجل تأمين المصالح المائية وحقوق مصر في مياه النيل، وقررت ان يظل الاجتماع مفتوحا حتى اشعار آخر.
عملية ملء سد النهضة ستبدأ في تموز (يوليو) المقبل، وبدون أي ضوابط او سقوف، فاثيوبيا تجاهر برفضها أي تدخل مصري في مشروع السد، وتقول "الأرض ارضنا.. والمياه مياهنا.. والمال الذي يبني السد مالنا، ولا قوة في الأرض تمنعنا من بنائه"، وهذا يكل استفزازا وابتزازا في الوقت نفسه لمصر وللامة العربية بأسرها.
صيف مصر المقبل قد يكون صيفا ساخنا بكل المقاييس، اذا لم يتم تحرك دولي فاعل لـ"تبريده" لان البدء في ملئ خزان السد حسب الخطط الاثيوبية يعني تجويع ملايين الفلاحين المصريين، وتخفيض كمية الكهرباء التي ينتجها السد العالي الى النصف تقريبا.
مصر تحتاج الى دعم ومساندة جميع اشقائها في مواجهة هذا التهديد لأمنها المائي، وتجويع أبنائها في هذا الوقت الصعب الذي توشك فيه على الخروج من عنق زجاجة ازمتها المالية، ونحن في هذه الصحيفة "راي اليوم" سنكون من بين الداعمين لمصر الدولة، وان كان لنا الكثير من التحفظات على بعض سياسات حكومتها.
عبد الباري عطوان