صورتان مختلفتان كل الاختلاف فيما بينهما..
قبل اربعين عاما، ولمّا يمر على انتصار الثورة الاسلامية الايرانية بزعامة الامام الخميني سوى شهور قلائل، كانت طبول الحرب في العراق تقرع ضد ايران على وقع التحضيرات والاستعدادات في دوائر غربية مختلفة لتحشيد اكبر قدر من الامكانيات والقدرات والموارد للاطاحة بالثورة الفتية وعدم اتاحة الفرصة لها لالتقاط انفاسها، وربما كان الحلم بأعادة الشاه الهارب احد السيناريوهات التي كانت قد طرحت على طاولات البحث والتحليل في واشنطن وعواصم اخرى.
والان بعد اربعة عقود، تشهد بغداد ومدن عراقية اخرى، احتفالات ومهرجانات سياسية وشعبية بذكرى انتصار الثورة الايرانية، متزامنة مع اربعينية استشهاد قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس بعملية استخباراتية اميركية قرب مطار بغداد الدولي.
وبين الصورة الاولى والصورة الثانية، سلسلة طويلة جدا من الصور والمشاهد التي تستحق الكثير من وقفات التأمل والتمحيص والتدقيق.
وفي واقع الامر كانت العقلانية الايرانية الى جانب التمسك بالثوابت وطول النفس، حاضرة في كل المنعطفات والمراحل والمحطات، رغم الكمّ الهائل من المصاعب والتحديات.
فبينما راهن الغربيون وحلفائهم واتباعهم في المنطقة على الاطاحة بالثورة والنظام الاسلامي المنبثق عنها خلال اسابيع او شهور في اقصى تقدير، عبر الحرب العسكرية التي شنها نظام صدام ضدها بعد حوالي عام ونصف العام من الانتصار، فأن تلك الحرب طالت اكثر بكثير مما كان مخططا لها، وخلال ثمانية اعوام تبدلت موازين القوى والمعادلات، لتضع الحرب اوزارها، وتشرع ايران في عملية بناء واصلاح على كل الاصعدة والمستويات، ويستمر نظام صدام بنهجه العدواني التدميري، الذي الحق الدمار والخراب بالبلاد، ناهيك عن تعريض دول وشعوب المنطقة الى المزيد من المشاكل والازمات والنزاعات والصراعات.
وعلى خلاف مجمل التوقعات، لم تتجه ايران الى نزعة الثار والانتقام من نظام صدام بعد غزوه لدولة الكويت وهزيمته فيما بعد وتعرضه الى العزلة والحصار، واستمرت بتبني سياسات متوازنة، وتمسكت بمواقفها المبدئية حيال الولايات المتحدة الاميركية والقوى الغربية والاقليمية المتحالفة والداعمة لها، ونفس الشيء تقريبا حصل ازاء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الاميركية في عام 2003 وانتهت الى الاطاحة بنظام صدام واحتلال العراق.
وما بين انتصار الصورة في شباط-فبراير من عام الف وتسعمائة وتسعة وسبعين وحتى سقوط نظام صدام في نيسان-ابريل من عام الفين وثلاثة، تكون تلك حقبة زمنية مختلفة عما بعدها، في اطار العلاقات العراقية-الايرانية، اذ ان رحيل النظام في بغداد مهد الطريق لتصحيح المسارات الخاطئة وحل ومعالجة القضايا والملفات الخلافية بين الطرفين، والتوجه الى بناء علاقات قوية ورصينة في المجالات السياسية والامنية والاقتصادية والثقافية وفق رؤية استراتيجية عميقة تأخذ بعين الاعتبار المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة بين بغداد وطهران، والحقائق والمعطيات القائمة في المنطقة والعالم، ولعل هذا ما شدد واكد عليه كبار الساسة واصحاب القرار من الطرفين في مناسبات عديدة.
ولاشك ان الامر المهم الذي ينبغي الاشارة اليه هو ان ايران كانت الدولة الاكثر انفتاحا على العراق بعد زوال نظام صدام، ووقفت الى جانبه في الظروف الصعبة والحرجة، لاسيما حينما اجتاح تنظيم داعش الارهابي مساحات واسعة من اراضيه في حزيران-يونيو من عام الفين واربعة عشر، فضلا عن ذلك فأن العلاقات والروابط الاقتصادية بين البلدين قد تنامت هي الاخرى الى حد كبير، وكذلك العلاقات والروابط الثقافية والاجتماعية.
وقد اثار ذلك كله حفيظة واستياء وقلق واشنطن وتل ابيب واتباعهما وعملائهما، لذا تحول العراق الى بؤرة استهداف اميركية اسرائيلية بطرق واشكال ووسائل واساليب مختلفة، بأعتباره اصبح طرفا اساسيا ضمن محور او جبهة المقاومة.
ولان ايران تقف اليوم في مقدمة قوى محور المقاومة، وتعد رأس الرمح الموجه لواشنطن وتل ابيب، فأن من يتابع ويدقق في طبيعة وجوهر ومضمون السياسات الاميركية الغربية ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية في الوقت الحاضر يجدها لاتختلف عن سياساتها قبل اربعة عقود، اي بعد الانتصار التأريخي الكبير للثورة الاسلامية، فقبل اكثر من اربعين عاما شرعت واشنطن بتجنيد وتحشيد كل امكانياتها وحلفائها واصدقائها في العالم والمنطقة من اجل افشال الثورة واعادة الامور الى الوراء وارجاع الشاه الهارب الى عرش السلطة، كما نجحت في ذلك حينما افشلت حركة محمد مصدق في عام الف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، وكانت تتوقع ان الامر سيكون بسيطا جدا لان الثورة الفتية مازالت في بداياتها ولم تتوفر على عناصر ومقومات القوة المطلوبة، لكن حسابات ساسة واشنطن كانت خاطئة بالكامل، والاحداث والوقائع اللاحقة اكدت ذلك، وابرزها الحرب التي شنها نظام حزب البعث المقبور في العراق على ايران بتخطيط ودعم وتشجيع غربي عربي. وقد خرجت ايران الثورة من الحرب اقوى مما دخلتها، رغم ان كل العالم تقريبا وقف ضدها.
واليوم وبعدما اجتازت ايران الثورة والدولة الكثير من التحديات الكبيرة وافشلت المؤامرات الخطيرة، داخليا وخارجيا، واصبحت قوة اقليمية يشار لها بالبنان ويحسب لها الف حساب، وتمتلك الكثير من الحلفاء والاصدقاء والمؤيدين، فأن واشنطن مازالت تجرب نفس الوسائل والادوات التي عفى عليها الزمن على امل اسقاط الثورة والدولة والنظام في ايران، التي باتت صواريخها تقض مضاجع واشنطن وتل ابيب وعواصم اخرى.
وكل ذلك ليس ببعيد عن الاجندات والمخططات التي تحاك للعراق، والتي يراد من ورائها ابعاده بأي ثمن عن ايران ومحور المقاومة، فألاستراتيجية الاميركية القائمة حاليا تقوم على اساس ضرب واضعاف حلفاء ايران واصدقائها في اي مكان، في ذات الوقت الذي تواصل ضغوطها السياسية والاقتصادية عليها، ولعل بعض مما يجري في العراق من وقائع واحداث يعكس جانبا من تلك الاستراتيجية، التي اثبتت التجارب انها عقيمة وغير مجدية ولا مثمرة.
عادل الجبوري