آية الله السيستاني تمكّن عبر إصدار البيانات أو على لسان ممثليه خلال صلاة الجمعة في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف أن يحدد المعايير والمتطلبات العامة للأحزاب والتيارات السياسية المطروحة على الساحة في سياق اختيار رئيس الوزراء الجديد في هذا البلد.
المرجعية الشيعية العليا في العراق ورغم إيجابية المواقف في إطار تحديد المعايير الضرورية لانتخاب رئيس الوزراء القادم، لكنها تحمل قناعة سلبية من بعض الشخصيات المطروحة لتؤكد على عدم اختيار المرشحين الذين سبق لهم وأن تسلموا منصب رئاسة الوزراء دون أن يحركوا ساكناً في حل المعضلات والأزمات التي يمر بها هذا البلد، الأمر الذي أدّى عملياً إلى إغلاق ملف إعادة انتخاب رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي لهذا المنصب.
إن ما أبدته التيارات السياسية بما يشمل السنية والشيعية في العراق من احترام وإجلال حيال مواقف المرجعية الدينية منذ سقوط الطاغية وحتى يومنا الحاضر أسهم بشكل كبير في تعزيز دورها على صعيد العملية السياسية داخل العراق.
حزب الدعوة الإسلامي الذي يمسك حالياً بمقاليد رئاسة الوزراء في العراق، كان له موقف واضح في هذا السياق، حيث أصدر بياناً اثنى فيه على دور المرجعية الدينية وتحديداً آية الله العظمى السيد علي السيستاني في حماية العراق وصون المقدسات والوحدة الوطنية، مؤكداً: أن مجلس قيادة حزب الدعوة الإسلامي التقى آية الله السيستاني وقد أكد سماحته ضرورة التسريع في إجراءات انتخاب رئيس وزراء جديد يحظى بتأييد شعبي واسع.
وأردف البيان" إن "اتباع رأي المرجعية ينبع من مسؤوليتنا الدينية والوطنية".
على غرار ذلك، جاءت مواقف باقي التيارات الشيعية بما فيها التيار الصدري والمجلس الأعلى وتيار الحكمة الوطني، والتي أبدت جميعها تأييداً لمواقف المرجعية بشأن موضوع انتخاب رئيس الوزراء الجديد.
ولا يخفى أن سنة العراق أيضاً يكنون احتراماً كبيراً للمرجعية الشيعية ويعيرون أهمية لمواقفها، وعلى سبيل المثال تجدر الإشارة إلى تصريحات رئيس البرلمان العراقي المنتخب حديثاً "محمد الحلبوسي" بوصفه شخصية سنية، والذي أكد ضرورة انتخاب رئيس الوزراء الجديد في العراق وفق المعايير والشروط التي تحددها المرجعية الدينية العليا.
طبعاً هناك جماعات سنية متطرفة محسوبة على فلول حزب البعث البائد والسعودية التي ساندت داعش في هجماته على العراق، والتي لا تخفي قلقها من اتساع دور المرجعية البنّاء والفاعل في العملية السياسية العراقية، فهي لا تستطيع نسيان فتوى المرجعية التي قضت على داعش والإرهاب في هذا البلد.
أكراد العراق أيضاً ينظرون بإيجابية واحترام إلى دور المرجعية الدينية الشيعية، والدليل على ذلك يكمن في البيان الصادر عن الزعماء السياسيين في إقليم كردستان العراق الذين أعربوا عن تأييدهم لمشروع آية الله السيستاني حول مخطط الاستفتاء والانفصال من البلد الأم.
وقد أكد هؤلاء الزعماء في بيانهم أن مشروع المرجعية شكّل خطوة مهمة في سياق الدفاع عن المبادئ وانطلاقة لدعم السلام وأمن المجتمع وتجنّب العنف والتهديد.
وبطبيعة الحال معارضة المرجعية الدينية العليا في العراق لمشروع فصل إقليم كردستان عن العراق وضع تيار مسعود البارزاني الانفصالي أمام تحديات وقيود كبيرة، فالجميع يعرف أن اتخاذ مواقف مناهضة للمرجعية الدينية في العراق إجراء مرفوض من جانب كل التيارات والطوائف العراقية، والأكراد على علم تام بأن معارضة المرجعية ستؤدي بهم إلى العزلة والمواجهة مع أنصار هذا التيار العظيم الذي بإمكانه تغيير كل المعادلات والحسابات في هذا البلد.
موقف اللاعبين الأجانب من المرجعية الدينية في العراق يشكّل أمراً في غاية الأهمية لتحديد مستقبل العملية السياسية في العراق؛ ومن أبرزهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية نظراً للمشتركات المذهبية والثقافية العديدة التي تجمعها بالمرجعية الدينية في هذا البلد.
إن تصريحات المسؤولين الإيرانيين تؤكد هذه الحقيقة، حيث إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمجدّ على الدوام شخصية آية الله السيستاني ودوره المؤثر في حلّ قضايا العراق الرئيسية ومنها اختيار رئيس الوزراء للمرحلة القادمة.
من جانب آخر، تقف أمريكا التي كرّست جهودها منذ العام ۲۰۰۳ حتى اليوم لتعزيز وجودها في العراق، عاجزة عن تجاهل دور المرجعية الدينية في هذا البلد.
ينبغي الإشارة هنا إلى المقال الذي نشره السفير الأمريكي السابق في العراق "زلماي خليل زاد" في مجلة "بوليتيكو"، مؤكداً أنه لا يمكن معالجة مشكلات العراق دون رأي المرجع الديني الشيعي (آية الله السيستاني).
يأتي ذلك وسط العديد من مواقف الرفض التي صدرت عن المرجعية الدينية العليا في العراق ضد سياسات وإجراءات أمريكا في هذا البلد، والتي أرغمت واشنطن على التراجع في قضايا عديدة.
طبعاً لا يخفى أن واشنطن تواصل جهودها وسياساتها رغم معارضة المرجعية الدينية للتدخل في شؤون العراق السياسية، وتأتي في السياق نفسه مساعي أمريكا لإعادة انتخاب رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، جهود وصفت على لسان العديد من المراقبين بأنها فاشلة قطعاً.
كما يظهر دور السعودية المخرّب في العراق والتي ترى في المرجعية الدينية حجر عثرة كبرى أمام أهدافها في هذا البلد، إن دعم السعودية لفلول حزب البعث البائد والجماعات التكفيرية بما فيها داعش شكلت أبرز المؤامرات التي باءت بالفشل إثر فتاوى المرجعية الشيعية في العراق.
ولكن السعودية لا تعلن عن معارضتها لدور المرجعية الشيعية لكونها على علم تام بمكانة آية الله العظمى السيستاني بين مكونات الشعب العراقي بمن فيهم الشيعة والسنة.
جارة العراق الشمالية تركيا أيضاً تتخذ جانب الاحتياط مع المرجعية الدينية في العراق وذلك رغم معارضة آية الله السيستاني لسياسات ومواقف هذا البلد من العراق.
وعلى سبيل المثال كانت المرجعية قد أكدت خلال العام ۲۰۱٥ رفضها لوجود القوات العسكرية التركية في هذا البلد، مطالبة الحكومة العراقية بعدم السماح في أي شرط كان المساس بسيادتها واستقلالها من جانب أي بلد.
تؤكد الشواهد أن توجيهات آية الله السيستاني فيما يخص القضايا السياسية العراقية ومنها موضوع تأسيس الحكومة واختيار رئيس الوزراء في العراق لا تتقيد بحزب أو تيار معين، كما أن سماحته لم ولا يتطرق إلى شخصيات محددة وإنما يكتفي بالإعلان عن المؤهلات والميّزات الضرورية لبعض المناصب القيادية بما فيها رئاسة مجلس الوزراء والعضوية في مجلس النواب العراقيين.
الشجاعة والنزاهة والحزم والعزيمة في مكافحة الفساد والتحلي بروح تواقة لخدمة الشعب وتوفير الرخاء المجتمعي و... هي من أبرز الصفات التي ينبغي لرئيس الوزراء القادم أن يتميز بها وفق رأي المرجعية الشيعية.
ختاماً... إن المرجعية العليا الشيعية في العراق والتي يقودها آية الله العظمى السيد علي السيستاني تتمتع بمكانة مرموقة لدى كل الشرائح والمذاهب والأديان والتيارات، بما يشمل الشيعة والسنة والعرب والأتراك والكرد،؛ بل حتى اللاعبين الأجانب وإن لم يحتكموا بأوامره لكنهم يكنون احتراماً كبيراً لسماحته ولن يجرؤوا على اتخاذ موقف مناهض أو معارض لمواقفه.
في المقابل، فإن آية الله السيستاني يضطلع بدور الأب الحريص على أبناء الشعب العراقي بكل مكوناته وشرائحه كما يتجنب التدخل مباشرة في القضايا السياسية وإنما يدأب على اتخاذ مواقف عابرة للتيارات والأحزاب وينطلق بتوجيهات ونصائح تخدم مصالح الشعب والمنطقة أجمع.
إن الفتاوي الحكيمة وبعد البصيرة التي يتميز بها سماحة آية الله السيستاني ولا سيما خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق وأيضاً فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها ضد تنظيم داعش الإرهابي، قررت مصير العراق وأحبطت أخطر المؤامرات التي خطط لها الأعداء وقوى الاستكبار.
وفي المرحلة الراهنة أيضاً حيث التطورات الأخيرة في البصرة ومسار العملية السياسية وانتخاب رئيس الوزراء القادم، فقد أبدت المرجعية الدينية الشيعية موقفاً في غاية الأهمية وقد طالب سماحة آية الله السيستاني بالتسريع في إجراءات تأسيس الحكومة وانتخاب رئيس وزراء نزيه وكفوء ليقود العراق في مرحلة ما بعد داعش وإعادة الإعمار نحو التقدم واجتياز الأزمات ومواجهة التحديات.