الأديب الأستاذ جورج جرداق
هلاّ أعرت دنياك أذناً وقلباً وعقلاً، فتلقي إلى كيانك جميعاً بخبرِ عبقريٍّ حملت منه في وجدانها قصّةُ الضّمير العملاق يعلو ويعلو حتّى لتهون عليه الدّنيا وتهون الحياة، ويهون البنون والأقربون والمال والسلطان، ورؤية الشمس المشرقة الغاربة، وحتّى يندفع بصاحبه ارتفاعاً، فما هو من الآدميّين إلاّ بمقدار ما يسمّون بمقياس الضّمير والوجدان…؟
هلاّ ضربت بعينيّك حيث شئت من تاريخ هذا الشّرق سائلاً عن فكر هو من منطق الخير نقطة الدائرة، تشدّ إليها آراءً جديدةً في الحياة والموت، ونظرات عميقةً في الشرائع والأنظمة والدساتير وقوانين الأخلاق، وفي مكانها من المجموعة البشريّة على صعيد التعامل والتعاطي، وربط الإنسان بالإنسان في مجتمع هو من الكلِّ وللكلِّ على السواء؟
هلاّ سألته عن فكر أنتج للناس مذهباً في الحكمة هو من مذاهب العصور ومن نتاجها القيّم، يرثه الأوّلون فيورثونه الأبناء والأحفاد، فيجتمعون له فيأخذون منه بقدر طاقتهم على الأخذ، وما يتركونه فهو للطالعين المقبلين…؟
هلاّ عرفت بين العقول عقلاً نافذاً كانت له السّابقة في إدراك حقيقة كبرى هي أصل الحقائق الاجتماعيّة وعلّة تركيب المجتمع وتسييره على هذا النحو دون ذاك، وهي الموضوع الذي تدور عليه دراسات الباحثين العلماء في الشّرق والغرب اليوم بعد ألف وأربعمائة عام وما ينيف تمرّ على إدراكه إيّاها؟ ولا نعني بها إلاّ واقع الاستغلاليّة وأساليبها في الاحتيال على قواعد الطبيعة، وفي تضليل العقول عن أسبابها الصحيحة ونتائجها المحتومة، وتفاهة منطقها الذي صنعه الأغنياء لاستثمار الفقراء، والحكام لاحتكار مجهود الناس وبعض الإلهيّين لتثبيت سلطانهم على الأرض!!
هل عرفت العقل الجبّار يقرّر منذ بضعة عشر قرناً الحقيقة الاجتماعية الكبرى التي تضع حدّاً لأوهام لها ألف مصدر ومصدر، فيعلن أنّه: «ما جاع فقير إلاّ بما مُتِّعَ به غنيّ»، ثمّ يردف قائلاً لتقرير هذه الحقيقة: «ما رأيت نعمةً موفورةً إلّا وإلى جانبها حقٌّ مضيَّع». أمّا إلى أحدِ عمّاله، فيبعث بهذا القول في صدد الحديث عن الاحتكار، باب الغبن الاجتماعي ودعامته، «وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار».
هل عرفت عظيماً دَلَّه عقُلُه الجبّار منذ بضعة عشر قرناً على اكتشاف سرّ الإنسانيّة الصحيح، فإذا سرّها متّصل اتّصالاً عميقاً بالشعب الذي لم يكن حكّام زمانه وملوكه ليقيموا له وزناً، أو ليشعروا له بوجود إلاّ في نطاق ما يكون لهم سلّماً ومطيّة؟!
فإذا كان «رافييل» قد اتخذ من إحدى فلاّحات الريف الإيطالي نموذجاً للعذراء أمّ المسيح، ليضع في هذا النموذج كلّ ما يحبّه ويريده من معاني الكرم الإنساني.
وإذا كان «تولستوي» و«فولتير» و«غيتي» قد عملوا في صنيعهم الفكري والاجتماعي ما هو من روح رافييل في صنيعه هذا، فإنَّ ذاك العظيم ـ أي الإمام عليّ (عليه السلام) ـ قد سبقهم إليه بمئات السنين، مع الفارق بين ظرفه الصعب وظروفهم المؤاتية، وبين مجتمعه الضيّق ومجتمعاتهم الواسعة، فإذا هو يحارب الملوك والأمراء والولاة والأثرياء، يحارب عبثهم، وسخف تفكيرهم، في سبيل الشعب المظلوم المُهان، فيُقسِم قائلاً: «وأيمُ اللهِ، لأنصفنَّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظّالم بخزامته، حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً».
ثمُ يطلق في آذان أمراء زمانه العابثين هذه الصيحة المدوّية التي يكمن وراءها من المعرفة لحقيقة أهل الأرستقراطية التافهين المتعالين على تفاهتهم، ولحقيقة الشعب البائس الشقيّ ما لا مزيد عليه، فيقول بإيجاز كأنّه صوت القدر: «أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم». وما يقصد من وراء هذا إلاّ الإشارة الصريحة إلى ما يُخفي الحرمان والجور من مواهب أبناء الشعب في الخير، وإلى ما يستتر في ثياب الإقطاعيّين والحكّام والمحتكرين من شياطين الشرّ وأبالسته الأذى والمكر!!
هل عرفت عظيماً ساق إلى مدارك الناس حقيقةً إنسانيةً قديمةً كالأزل، باقيةً كالأبد، عميقةً، حتّى ليستشفّها كُبّار العقول والنفوس، كلّ منهم على نهجه ووفق مزاجه، وحتَّى ليأبى العاديّون إلّا العيش في ظلالها وهم لا يعرفون…؟!
هل عرفت عظيماً أدرك من أسباب المحبَّة والوفاء فوق ما أدرك الآخرون، ثمّ ما أدرك هذه المحبَّة وهذا الوفاء إلاّ في نطاق الطبع الخالص الذي يجري بنفسه من نفسه، فأحبّ ما تكلّف حبّاً، ووفى وما تكلّف وفاءً، وفهم بعميق فكره وعميق حسّه أنَّ الحريّة لها قدسيّة يريدها الوجود ويأبى عنها بديلاً، وفي رحبها تدور كلّ عاطفة وكلّ فكر، وفي رحبها يكون الحبّ ويجري الوفاء صريحين طليقين، فإذا «شرّ الإخوان من تُكُلّف له»، وإذا خيرهم غير هذا؟!
هل سألت عن حاكم يحذِّر نفسه أن يأكل خبزاً فيشبع في مواطن يكثر فيها من لا عهد لهم بشبع، وأن يلبس ثوباً ناعماً، وفي أبناء الشعب من يرتدي خشن اللّباس، وأن يقتني درهماً وفي النّاس فقر وحاجة، ويوصي أبناءه وأنصاره ألاّ يسيروا مع نفوسهم غير هذه السيرة، ثم يقاضي أخاه لمكان دينار طلبه من مال الشعب من غير بلاء، ويقاضي أعوانه ومبايعيه وولاته من أجل رغيف يأكلونه في رشوة من غنيٍّ فيتهدّد ويتوعّد، ويبعث إلى أحد ولاته بأنّه يُقسِم بالله صادقاً إن هو خان من مال الشّعب شيئاً صغيراً أو كبيراً ليشدّنّ عليه شدّةً تدعه قليل الوفر، ثقيل الظّهر، ضئيل الأمر. ويخاطب آخر بهذا القول الموجز الرّائع الإيجاز: «بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك». ويتوعّد ثالثاً ممّن يرتشون ويسعون في الإثراء على حساب المستضعفين يقول: «فاتّقِ اللهَ، واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنَّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك، لأعذرنّ إلى الله فيك، ولأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلاّ دخل النّار»؟!
هل عرفت من الخلق أميراً على زمانه ومكانه يطحن لنفسه فيأكل ما يطحن خبزاً يابساً يكسره على ركبتيه، ويرقع خفّه بيديه، ولا يكتنز من دنياه كثيراً أو قليلاً على ما مرّ، لأنّ همّه ليس إلاّ أن يكون للمستضعف والمظلوم والفقير ينصفهم من المستغلّين والمحتكرين، ويمسك عليهم الحياة وكريم العيش، فما يعنيه أن يشبع ويرتوي وينام هانئاً وفي الأرض «من لا طمع له في القرص»، وفيها «بطون غرثى، وأكباد حرّى»، قائلاً، ويا لشرف القول: «أأقنعُ من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر»؟!، ولأنَّ أقلّ ما في هذه الدنيا شأناً هو خير عنده من ولاية الناس، إن لم يُقِم حقّاً ويُزهِق باطلاً؟!
هل عرفت في موطن العدالة عظيماً ما كان إلاّ على حقٍّ، ولو تألّب عليه الخلق في أقاليم الأرض جميعاً، وما كان عدوّه إلاّ على باطل، ولو ملأ السّهل والجبل؛ لأنّ العدالة فيه ليست مذهباً مكتسباً، وإن أصبحت في نهجه مذهباً فيما بعد، وليست خطّةً أوضحتها سياسة الدولة، وإن كان هذا الجانب من مفاهيمها لديه، وليست طريقاً يسلكها عن عمد فتُوصله من أهل المجتمع إلى مكان الصدارة، وإن هو سلكها فأوصلته إلى قلوب الطيِّبين، بل لأنّها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتّحد بأصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لَكأنّ هذه العدالة مادةٌ ركّب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركِّب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه؟!...
هل عرفت من الخلق أميراً توافرت لديه أسباب السلطان والثروة كما لم تتوافر لسواه، فإذا هو منها جميعاً في شقاء وحسرة دائمَين، وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف فقال: «لا حسب كالتواضع»، وأحبَّه محبّوه فقال: «من أحبّني فليستعدَّ للفقر جلباباً».
وغالوا في حبّه فقال: «هلك فيّ اثنان: محبّ غال…»، بعد أن خاطب نفسه يقول: «اللّهمّ اغفر لنا ما لا يعلمون».
فألّهوه، فعاقبهم أشدّ عقاب. وكرهه آخرون، فوقف منهم موقف النّاصح لإخوانه في الخلق.
وسبّوه! فاستاء صحبه وأجابوهم بالسّباب، فقال لهم: «أكره لكم أن تكونوا سبّابين».
وخاصموه وأساؤوا إليه وما حفظوا له غِيبة، ثم خرجوا عليه فكان يقول: «عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردُده بالإنعام عليه»، و«لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته، ولا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان».
وأغرَوه بمسايرة بعض الآثمين ولو إلى حين حفاظاً على سلطانه، فقال: «صديقك من نهاك، وعدوّك من أغراك»، ثم أردف: «آثر الصّدق حيث يضرّ بك، على الكذب حيث ينفعك».
وحاربه من أسدى إليهم معروفه، فخاطب نفسه يقول: «لا يزهدنّك بالمعروف من لا يشكر لك».
هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاته بمثل هذا القول في الناس: «فإنَّهم إمَّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، أعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه».
هل عرفت صاحب سلطان تمرَّد على سلطانه لإقامة الحقّ في الشّعب، وصاحب ثروة أنكر منها إلاّ القرص الذي يمسك عليه الحياة، وما الحياة لديه إلاّ نفع إخوانه في الخلق، أمَّا الدنيا فلتغرّ سواه؟!
ثم هل سألت تاريخ هذا الشّرق عن نهجٍ للبلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتَّصل بالذوق الفنّيِّ الرفيع ما بقي الإنسان، وما بقي له خيال وعاطفة وفكر…؟! هل عرفت عقلاً كهذا العقل، وعلماً كهذا العلم، وبلاغةً كهذه البلاغة، وشجاعةً كهذه الشّجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدوداً، حتى ليبهرك هذا القدر من الحنان، كما يبهرك ذلك القدر من المزايا، تلتقي جميعاً وتتّحد في رجل من أبناء آدم وحوّاء؟!
فإذا هو العالِم المفكّر، الأديب الإداري، الحاكم القائد الّذي يترك للناس والحكّام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به ليقبل عليك، فيهزّ فيك مشاعر الإنسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة قائلاً: «فقدُ الأحبّة غربة»، أو «لا تشمت بالمصائب»، أو «ليكن دُنُوُّك من الناس لِيناً ورحمة»، أو «واعفُ عمّن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وصِلْ من قطعك، ولا تبغض من أبغضك».
*من كتاب "الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية".