لا بدّ لأي متابع للشأن السياسي من قراءة وتقييم التغيّرات التي تطرأ على العوامل البيئية في الميدان السياسي، من أجل تصنيفها كتهديدات أو فرص، وفقاً لمنظومته القيمية والاعتقادية والفكرية ورؤيته السياسية.
والحراك هو إحدى التغيّرات الاستراتيجية في الواقع اللبناني.
والسؤال الذي يطرح نفسه عند مؤيدي خيار المقاومة هل يُعدّ الحراك فرصة أم تهديداً للمقاومة في لبنان؟
إن النظرة الواقعية الموضوعية للأمور تفيد:
- أن مؤيدي خيار المقاومة في لبنان كانوا في صلب الحراك الصادق العفوي غير المسيّس، منذ انطلاقته، وما زالوا مشاركين في فعالياته وأنشطته.
- لقد أعطى الحراك حرية حركة للمقاومة في الميدان السياسي لمساعدتها على بناء دولة مقتدرة، مستقلة ذات سيادة، يُزال منها الفساد والإجحاف، ويسودها العدل والانصاف، ويُعَزّ فيها المصلحون ويُذَل فيها المفسدون.
- لقد سرّع الحراك عجلة مكافحة الفساد، وجعل حركتها قوية مؤثرة، عندما حثّ القوى السياسية على المبادرة لتشريع قوانين رفع السرية المصرفية، ورفع الحصانة الوزارية، وتبني ورقة إصلاحية، غير مسبوقة في بنودها قياساً على ما مضى، والتخلي عن نهج عقيم معتمد في الميدان المالي، من قبل بعض من في الطبقة السياسية، يقضي بفرض الضرائب على الفقراء لتمويل عجز الموازنة.
- وحرّر الحراك نسبياً قوى سياسية أخرى، صادقة في حملها لراية مكافحة الفساد، من ثقل سياسة المداراة التي اعتمدتها في عملية الإصلاح ومكافحة الفساد، مراعاةً للتركيبة السياسية والطائفية التي يقوم عليها البلد، وذلك منعاً من اعتماد التغيير الدفعي الذي يُخشى معه انهيار البنيان السياسي للبلد وانتشار حال الفوضى.
- لقد حقق الحراك صدمة إيجابية كبيرة في الوعي الجمعي للبنانيين نازعاً عنهم ثوب اليأس، ومعززاً فيهم الثقة بقدرتهم على الفعل والتغيير، وعاملاً على كي الوعي عندهم، لا سيما عند من يتولى الشأن العام منهم، من أنّ السلطة موقع خدمة وتكليف، وليست موقع سرقة ونهب وتشريف وعلوّ وفساد وإفساد.
- وفتح الباب لإمكانية البحث في إيجاد بدائل لهيكل النظام اللبناني الذي تجذر في جسده الفساد منذ نشأته، بعدما تفاجأ المراقبون بالجيل الشاب الذي انطلق متحرراً من القيود الطائفية والمذهبية التي تمت مراعاتها في إتفاق الطائف.
لذلك كله ينبغي للقوى الصادقة والمخلصة النظر إليه كفرصة ثمينة، والحفاظ على صدقيّة مسيرته، عبر حسن قيادتها إلى استخدام أساليب رشيدة لا تمس بحركة الناس الاجتماعية والاقتصادية، بل تضغط فيها على الفاسدين والمفسدين لتسليم أنفسهم للقضاء، وعلى المسؤولين في البلد للسير في عملية مكافحة الفساد دونما تسويف أو مماطلة، وعلى القضاء للانطلاق دونما خوف أو تأجيل في عملية المحاسبة ابتغاء للإنصاف وتحقيقاً للعدالة.
وهنا لا بد من التذكير من خطورة استغلال الحراك، من خلال تسييسه من بعض القوى الخارجية والداخلية الحاقدة على المقاومة وبيئتها الحاضنة، لحرفه عن اهدافه في الإصلاح ومكافحة الفساد واستعادة الدولة لعافيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليتمّ بعد ذلك تحويله إلى ثورة ملونة تعيد تركيب السلطة بنفس أدواتها السابقة التي كانت مسؤولة إلى حدّ كبير عما لحق بهذا البلد من فساد وإفساد.
إن ما وفره الحراك للمخلصين في هذا البلد من تأمين الظروف الموضوعية اللازمة لتسريع عملية التغيير التي أطلقوها لمكافحة الفساد، يعدّ فرصة استراتيجية ينبغي حسنُ استثمارها وعدم إضاعتها وتعهّدها بالحفظ والرعاية لكي تحقق تلك العملية أهدافها وتؤتي أطيب ثمارها.