هذا الخطاب الذي ينتقد جواز "التبعية" واللامبالاة السياسية في الخطاب السلفي الوهابي، استفاد من التعاليم السياسية للإخوان المسلمين، وإذ يؤكد على إحياء دور الدين في المجتمع والسياسة، سعى إلى تفكيك الخطاب السلفي الوهابي وفي الوقت نفسه التنافس مع الإسلام الشيعي.
يسعى هذا المقال إلى الإجابة عن سؤال حول ماهية السياقات والفرص المهمة التي أدّت إلى ظهور خطاب "الصحوة" السلفي الفرعي، وتطوّر الصراع الداخلي بين الخطابات الفرعية السلفية مع الخطاب الأم (السلفي الوهابي)، وماذا كانت نتيجة هذا الصراع؟
خلفيات وفرص تشكيل الصحوة ونموها
تعود جذور تشكيل "الصحوة" إلى عام 1960، عندما فتحت السعودية حدودها أمام آلاف لاجئي الإخوان المسلمين من مصر وسوريا والعراق وفلسطين، حيث تبنّى السعوديون سياسة "الأبواب المفتوحة" لاستخدام هؤلاء اللاجئين في صراعهم ضد الناصريين والبعثيين.
كان العديد من هؤلاء اللاجئين مرتبطين بالإخوان المسلمين وجلبوا معهم الأفكار الثورية التي استلهموها من "سيد قطب" الزعيم الفكري للإخوان المسلمين، في الوقت نفسه، وضعت البرامج الشاملة لتحديث المؤسسات والمنظمات وخاصةً التعليم على جدول أعمال النظام السياسي السعودي، خاصةً وأن عائدات النفط الضخمة قد جعلت هذا الأمر ممكناً.
بالنظر إلى الأمّية البالغة 85 في المئة في السعودية، كان للإخوانيين المتعلمين تعليماً عالياً فرصةً للسعودية لاستخدامهم في وظائف تعليمية وإدارية حساسة، فتمَّ انتشار الإخوانيين في الفضاء الاجتماعي من خلال النظام التعليمي السعودي، وهكذا، وسّع تيار الصحوة نفوذه من خلال صياغة خطاب يجمع بين الوهابية وأيديولوجية الإخوان المسلمين.
استقى هذا الخطاب المجالات الرئيسة للفقه الإسلامي من الوهابية، والقضايا السياسية والثقافية من الإخوان المسلمين، بمعنى آخر، أخذ الفكر الاعتقادي من الوهابية والفكر السياسي من جماعة الإخوان المسلمين، أطلق أنصار هذا التيار اسم "الصحوة الإسلامية" عليه، بينما أسماه المعارضون التيار "السروري" وآخرون "القطبي" أيضاً.
بعد أن ارتفعت أسعار النفط منذ عام 1973 وأصبحت السعودية أكثر ثراءً، سعى السعوديون إلى دمج الدين في المجال العام مع السعي إلى ملاحقة العلمانية السياسية.
غالباً ما كان الناس غير قادرين على توجيه السؤال إلى علماء الدين حول القضايا العامة المتعلقة بسياسات الحكومة أو التفاسير الدينية أو غيرها من الموضوعات الصعبة، وفي مثل هذا الجو، فشل الخطاب الحاكم في منح الهوية للناس، فتفرَّق الناس عن الخطاب الحاكم، ومن هنا توفرت الأرضية للتكوين ووضع الأطر الجديدة في شكل خطاب الصحوة.
في أعقاب غزو صدام للكويت في أغسطس 1990، دعت الحكومة السعودية القوات الدولية التي قادتها أمريكا لدعم السعودية ضد أي عدوان محتمل لصدام، وجعل أراضيها قاعدةً لتحرير الكويت المحتلة.
قال الملك فهد إن استدعاء القوات الأجنبية سيكون إجراءً ضرورياً ولكنه مؤقت، لكن أمريكا قد حافظت على قواعدها في السعودية بحجة ضرورة وجود قوات بالقرب من العراق، وفي السياق نفسه، أصدر المفتي السعودي الكبير "بن باز" فتوى تجيز الطلب من الأجانب دعم الإسلام والمسلمين.
اعتقد العديد من علماء الصحوة أن هذه الفتوى، التي سمحت للقوات المسيحية بدخول البلاد، قد انتهكت الخطوط الحمراء الدينية وتتعارض مع الشريعة، وهكذا، تولى عالمان شابان نسبياً، هما "الشيخ سلمان العودة" و"الشيخ سفر الحوالي"، المعروفان باسم "شيخا الصحوة"، قيادة الصحوة بعد الغزو العراقي للكويت، فاجتمع حولهما العديد من شباب الطبقة الجديدة والمهاجرين من الريف الذين كانوا قد خرجوا من الظروف الاقتصادية الجديدة.
صنع الآخر عن خطاب الإسلام الشيعي، الغربي والسلفي الوهابي
اختار خطاب الصحوة على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية، إجراءات مختلفةً لتحديد هويته، حيث خلق الآخر على المستوى المحلي مع الخطاب الوهابي والعلماني المدعوم من الغرب، وعلى المستوى الإقليمي مع خطاب الإسلام الشيعي، وعلى الصعيد الدولي اعتبر الغرب عدواً.
شكلت الثورة الإيرانية عام 1979 تحدياً كبيراً للمجتمع الديني السعودي، حيث دعا العديد من القادة الدينيين والناشطين السعوديين الشباب، المتأثرين بالثورة الإيرانية، إلى وضع أفضل لرجال الدين في الحكم.
في هذا الصراع، اعتبرت الخطابات الوهابية والسلفية الرسمية والليبرالية والعلمانية، تيار الصحوة جماعةً تقدِّم تفسيرات دينية غريبة، وتعيد تعريف أفكار الحركات السياسية الإسلامية، ولا سيما أطروحات الإخوان المسلمين وأيديولوجية سيد قطب وكذلك الأفكار الجهادية.
ولعب خلق الآخر هذا والتمييز بين النفس والآخر دوراً مهماً في تشكيل هوية خطاب الصحوة، ونجح هذا الخطاب في فرض نفسه على المجتمع كضرورة.
التضارب مع مصالح الحكومة السعودية
"عائض القرني"، أحد شيوخ الصحوة المشهورين، اعتبر هذا الخطاب في الواقع "تجديداً دينياً" والذي يحيي حقيقة السلف وصدقهم.
عرف تيار الصحوة نفسه بالعودة إلى المبادئ بعد فترة طويلة من الانفصال والاغتراب؛ فوق ذلك، أعلن تيار الصحوة أن الإسلام وحده، هو المصدر المهم لجميع جوانب الحياة، بما في ذلك السياسة العامة.
أعلن خطاب الصحوة أنه ليس مسؤولاً فقط عن تحرر الفرد، ولكنه مسؤول أيضاً عن تحرر المجتمع، بالإضافة إلى ذلك، روَّج خطاب الصحوة هذا "المفهوم الاجتماعي" الذي مفاده أن للناس الحق أن ينتقدوا سياسات الحكومة في الشؤون الجارية والنصائح العامة المقدمة.
كان قادة الصحوة لا يحجمون عن المغامرة في المجال الذي كان محظوراً دائماً في السعودية، وكان هذا أحد أهم أسباب خوف الحكومة السعودية من تيار الصحوة، لأن الهدف الرئيس للتحالف الاستراتيجي بين آل سعود وآل الشيخ، كان تعزيز الخشية الاجتماعية من الشؤون السياسية.
في السعودية، الحكومة والعلماء الرسميون فقط لديهم الحق والقوة في النهي عن المنكر في المجتمع؛ لكن الصحوة ترفض هذا الرأي وتعتبر ذلك مسؤولية الجميع، والنقطة الأخرى المهمة للغاية في خطاب الصحوة هي "فقه الواقع".
خطاب الصحوة يتهم دائماً الخطاب الوهابي السلفي الرسمي بالابتعاد عن الوقائع الحالية، حيث اعتبر خطاب الصحوة قرار السعودية السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي السعودية ضد العراق، دليلاً على ابتعاد هؤلاء العلماء عن الحقائق الحالية وقضايا اليوم.
استناداً إلى التراث الوهابي، يحظر الخروج على ولي الأمر وتحدي سلطته، إلا إذا منع الصلاة في المساجد أو ابتعد عن الإسلام وكفر به.
يعتقد خطاب الصحوة في هذا المجال، متأثراً بمفاهيم الإخوان المسلمين، أن الأمة لها الحق في أن تكون وصيةً على نفسها لأنها ولي أمر الإسلام والمسلمين، كما يضع أيضاً العديد من الشروط والقيود للحاكم، بحيث إذا كان الحاكم لا يحترم هذه الشروط يمكن أن يثار ضده.
تعدّ مسألة "الولاء والبراء" واحدة من مكونات الخطاب الوهابي السلفي، وأحد العناصر الرئيسة فيها هو الإيمان، وكان أحد أهم مظاهرها هو حرمة الاعتماد على الكفار وضرورة طردهم من شبه الجزيرة العربية.
لقد أتاح السماح للقوات الأمريكية بدخول السعودية، فرصةً جيدةً للصحوة لكسر هذه السمة في الخطاب الوهابي، واستناداً إلى تقنية تسليط الضوء وتهميش الخطابات، اعتبرت الصحوة أنه من نقاط الضعف في الخطاب الوهابي، هي التأكيد على تدمير القبور بدلاً من تدمير القصور في محاربة الشرك.
وجهة نظر متسامحة تجاه التكنولوجيات الجديدة
بينما كان علماء الخطاب الوهابي الرسمي ينظرون إلى تقنيات الاتصال الجديدة نظرة الريبة والشك، استخدم علماء الصحوة هذه الأدوات مثل إطلاق شبكات الأقمار الصناعية والمواقع الافتراضية الإسلامية، لتوسيع خطابهم، لهذا السبب، انتشر الخطاب السلفي الحركي في العديد من الدول العربية بتأثير من الصحوة، وأثّر بدوره على الإسلاميين الآخرين خارج حدود السعودية.
لقد ارتبطت السلفية في الكويت بتأسيس جمعية "إحياء التراث الإسلامي"، على يد "عبد الرحمن عبد الخالق" المصري الأصل. وفي مصر، تأثرت قياداتها البارزة الحالية بالصحوة، مثل هشام عقدة أستاذ جمال سلطان والشيخ فوزي سعيد.
العالم السلفي "محمد عبد المقصود" وبتأثير من الصحوة، أجاز الانتفاضة ضد مبارك عبر فتوى شهيرة، وفي الأردن، تأثرت "جمعية الكتاب والسنة" بتيار الصحوة، وفي الجزائر، أسس "الشيخ علي بلحاج" الجبهة الإسلامية للإنقاذ متأثراً بهذا التيار.
التدخل السعودي في المنافسة بين الصحوة وآل الشيخ
رغم أن خطاب الصحوة قد حاول أن يظهر نفسه وفياً للوهابية، وحتى قبل بالتعاليم العقائدية والاجتماعية للخطاب الوهابي، ولكن منذ البداية ألصق المعارضون السمة الإخوانية بهذا الخطاب، وكان هدفهم تشويه سمعته.
كذلك، كان الخطابان العلماني والوهابي الرسمي المنافسان، يقدمان هذا الخطاب بأنه خطاب مستورد من مصر وسوريا، والذي لا يتماشى مع السياق الثقافي السعودي، وكان هذا إحدى نقاط الضعف الرئيسة في خطاب الصحوة، التي لم تسمح له بتحقيق الهيمنة.
ولذلك، بعد تصاعد المخاوف تجاه توسيع خطاب الصحوة، دخل الخطاب السلفي الوهابي في نوع من الصراع الناعم معه، ومن هنا ظهرت الشخصيات الرئيسة للخطاب الوهابي في العلن، معرِّفين أنفسهم على أنهم الحاملين الوحيدين للمعرفة الدينية اللازمة لتحقيق السعادة والخلاص.
على وجه التحديد، اعتمدت الحكومة السعودية أربعة أساليب لاحتواء التوجهات الاعتراضية لخطاب الصحوة:
1- إزالة المصداقية: لقد وصفوه بأنه انحرافي ومعارض للشريعة الإسلامية الصحيحة.
2- إنشاء خطابات منافسة مثل "الخطاب الجامي" الذي كان يدعو لضرورة طاعة ولي الأمر والخوف من الفتنة.
3- قمع دعاة هذا الخطاب من خلال الإعدام، السجن، منع السفر، الفصل عن العمل وإغلاق المؤسسات.
4- بناء الأطر المؤسسية وبعض الإصلاحات، مثل إحياء منصب المفتي العام، إنشاء وزارة لإدارة الشؤون الإسلامية، وحظر المبادرات الدينية في القطاع غير الحكومي.
ضغوط الحكومة والانقسامات داخل الخطاب
مع زيادة الضغط من النظام الحاكم، خفف معظم قادة الصحوة من وجهات نظرهم بعد خروجهم من السجن في أواخر التسعينات، وبعض الوعاظ المتطرفين قد سحبوا حكمهم بارتداد الحكومة.
كما حدثت تفاعلات بين الحكومة والصحوة، حيث قدّمت الحكومة تنازلات من قبيل الإذن لإنشاء القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، شريطة عدم التطرق للشؤون السياسية سوى تأييد مواقف الحكومة.
مع ضغوط الحكومة بعد التسعينيات وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، انقسم تيار الصحوة إلى ثلاثة خطابات فرعية:
1- الصحوة الجديدة، التي دعت إلى وقف النشاط السياسي، ومجرد السعي للأنشطة الاجتماعية مثل الماضي.
2- "الليبراليون الإسلاميون - الإصلاحيون الإسلاميون" الذين طالبوا بالإصلاح الجذري للنظام السياسي وإعادة النظر في الخطاب الديني.
3- "الجهاديون الجدد" الذين وضعوا انتقاد الحكومة السعودية في أولوياتهم، ودعوا إلى الحرب مع أمريكا ودعم تنظيم القاعدة.
ونتيجةً لهذه التطورات، ينشط خطاب الصحوة في المجالين العام والسياسي في السعودية، لكنه أصبح تدريجياً شكلاً من أشكال الخطاب المحافظ، وبات طابعه الثوري ضعيفاً، وتحوَّل إلى أداة للنظام الحاكم.
وفي العديد من التطورات والتوجهات السياسية الدولية، دعم هذا التيار موقف الحكومة السعودية، مثل انتقاد انضمام روسيا إلى الحرب السورية، ودعم الحرب السعودية ضد اليمن، كما اعتبر أن الثورة البحرينية مؤامرة إيرانية - شيعية لتقويض أمن الخليج الفارسي.
بين مختلف تيارات الصحوة بعد الانهيار الخطابي، ولد تيار مهم من الصحوة يمكن تسميته بالخطاب السلفي الإصلاحي، هذا الخطاب يدعم الإصلاح السياسي والدعوة إلى التغيير السلمي نحو الملكية الدستورية، سيادة القانون والحريات العامة ومشاركة الأمة في القرارات السياسية.
في خطاب الحداثيين الصحويين، لم ينتشر الإسلام بحد السيف، ومشروعية الجهاد هي أن يدع الناس يختاروا أي دين يريدون، ويحارب من يمنع ذلك، إذن، من خصائصه العدالة والشورى والتسهيل الفقهي.