وفي حين بدا جميع السياسيين مرتبكين من الحديث وتوجيه كلمة للشعب الذي يردّ "كلّهن يعني كلهن"، وقف السيد نصرالله وقفة الرجل الواثق منتهزاً هذه الفرصة لتمرير المشاريع الإصلاحية عبر صوت الناس وتحت وطأة ضغطهم.
السيد نصرالله دعا جميع اللبنانيين من هم في السلطة وخارجها أن يتحمّلوا المسؤولية إزاء الوضع الخطير الذي يواجهه البلد، مشيراً إلى أن "بعض القيادات والقوى السياسية في لبنان تتصرّف وتقف على التلّ وتتنصل من أيّ مسؤولية عن الماضي والحاضر وتُلقي التبعات على الآخرين، متابعاً: من المُعيب أن يتنصّل أحد عن المسؤولية فيما يحصل ولاسيما كلّ من شارك في الحكومات السابقة على مدى 30 عاماً في إشارة واضحة إلى الرئيس وليد جنبلاط.
بدا السيّد في غاية المنطق والدقّة، انطلاقاً من خشيته أن تدمّر أمريكا في السياسية ما فشلت في تدميره من خلال الحرب العسكرية، وفي حين أكّد أن معالجة الوضع المالي بالضرائب والرسوم يؤدي الى انفجار شعبي وأن أهمّ نتيجة يجب أن تؤخذ من الحراك الشعبي الحاصل هي الاقتناع بأن الناس لم تعد تستطيع تحمّل رسوم جديدة، كان صادقاً مع نفسه ومع المتظاهرين، بالقول: فلنكن صادقين الوضع المالي والاقتصادي ليس وليد الساعة ولا السنة ولا العهد الجديد أو الحكومة الحالية بل نتيجة تراكم عبر سنوات طويلة منذ 30 سنة تقريباً.
لم يعُد الحدث في وسط بيروت وحسب، بل في كل ساحات لبنان في مشهد شكّل واحدةً من أكثر المفاجآت المباغِتة للسلطة والشعب معاً. وباتَ هذا الأخير هو الرقم الصعب، وبدأت الأحزاب والتيارات السياسية من دون استثناء تبحث عن حلول لإرضائه، فالحشود البشرية التي ضاقت بها الطرقات في كل المناطِق، قفزت فوق الإجراءات التي اعتادت الحكومة اتخاذها كمُخدر.
أصبحَ بُركان الاعتراض في مكان آخر، لا يُمكن أن تُخمِد ناره إلا إجراءات استثنائية، تحقّق اختراقاً حاسماً في موضوع الإصلاح ووقف الهدر والفساد.
لم يكتفِ السيد نصرالله بالصدق والثقة، بل زرع الأمل في نفوس اللبنانيين حينما أكد أنه بإمكاننا أن نمنع الانهيار المالي والاقتصادي دون الذهاب الى انفجار شعبي وهذا يحتاج الى إرادة وتصميم وتضحية وإخلاص، مشيراً إلى أن "لبنان ليس بلداً مُفلساً وليس صحيحاً أنه لا يوجد أمام الحكومة إلّا خيار الضرائب والرسوم بل هناك خيارات كثيرة"، وقال: "نستطيع أن نُنقذ بلدنا وشعبنا واقتصادنا.. والشعب اللبناني هو من يجب أن يكون راضياً"، وشدد على أنه "يجب أن نتخذ إجراءات يضحي فيها الجميع لا أن يضحي فيها الفقراء فقط".
اليوم، بدت الساحة خالية بعض الشيء، لاسيّما مع تسرّب الورقة الإصلاحية، ولكن ما يتسرّب من منازل كبار المسؤولين ومكاتبهم لا يبشر بالخير، فهناك من يخشى أن تتحوّل هذه الورقة الإصلاحية إلى مائدة دسمة للفساد والسرقة، وإلى حين اتضاح الورقة الحكومية الإصلاحية، وردّ فعل الشارع الذي سنراه منقسماً بين مؤيد للخروج ومعارض له، تجدر الإشارة إلى التالي:
أوّلاً: بدا حزب الله المستفيد الأكبر مما يحصل، فالناس لا تحمل عليه متهمة إياه بالفساد، وفي المقابل هناك خشية واضحة من كل الأطراف السياسيّة الأخرى بدءاً من رئيس الجمهوريّة، مروراً برئيس مجلس الوزراء وصولاً إلى رئيس مجلس النواب.
يعتبر حزب الله أن ما ناضل من أجله لسنوات في مسيرة الإصلاح أصبح قاب قوسين من تنفيذه خلال أيام خاصة أن ورقته الاقتصادية وورقته بخصوص الموازنة ٢٠٢٠ أخذت نصيبها، وفي المقابل رئيس مجلس النواب نبيه بري في وضع صعب خاصة أنه نال نصيباً كبيراً من هجوم الحراك، بينما رئيس الحكومة سعد الحريري تلقّى رسائل تؤكد على ضرورة عدم الاستقالة من الأمريكي والفرنسي، وأما تيار الرئيس يعيش أياماً صعبة لاسيما أن المتربصين كثر، وأما الحراك فرغم مطالبه المحقة، تسأله عن الخطوة التالية فلا تسمع جواباً.
ثانياً: إن التهديد الأكبر للحراك القائم اليوم يأتي من الانتهازيين السياسيين ومن عسس السفارات والقوى الخارجية التي تريد استثماره.
هناك جهات داخلية وخارجيّة تسعى لاستثمار هذا الحراك في تصفية حسابات سياسية بعيدة كل البعد عن وجع الناس الاقتصادي، ومواجهة هذا الأمر بيد الحراك نفسه الذي سينقسم على نفسه في حال استمرّت هذه الجهات بتحرّكاتها، بطبيعة الحال، تهديد السلطة نفسها لا يقل عن تهديد الانتهازيين، في حال قرّرت الالتفاف على ورقتها الإصلاحية بعد هدوء الشارع اللبناني.
تهديد آخر يرتبط بأروقة السلطة نفسها، هناك من يتحدّث عن تعديل حكومي ضروري بعدما خرجت القوات اللبنانية، وضرورة تعيين أربعة وزراء جدد في حين أن جنبلاط يريد إخراج باسيل من الحكومة، وهو ينطق فعلياً بمطلب الرئيس بري الذي يرفض المساس بوزير المالية علي حسن خليل إذا بقي باسيل في الحكومة، في حين أن رئيس الحكومة يرفض أن يكون وزيره محمد شقير كبش المحرقة، باختصار، ليس لدى الشارع ما يخسره، فـ "الغريق لا يخشى من البلل".
في الختام.. إن ما يحصل في لبنان فرصة كبيرة للإصلاح الاقتصادي ومعالجة الفساد الذي يعتري البلد، لكن هناك العديد من الأطراف الداخلية والخارجية تسعى لركوب الموجة، سواءً لتعويم أنفسها بعد فشلها في الانتخابات أو لتصفية حسابات سياسيّة وإقليمية. اللبنانيون خرجوا بمطالب داخلية، ويجب أن تبقى كذلك، اقتصادية بعيدة عن السياسية، على "الثوّار" منع أي تدخل يسعى لقطف ثمار الثورة، تنتهي اليوم مساءً المهلة التي أعطاها الحريري، ستكون الحكومة أمام الاختبار الحقيقي، لبنان على مفترق طريق والـ48 ساعة الأخيرة هي التي تحدّد مصيره.