وبالفعل قام ذاك الخطيب الشامي فلم يدع شيئاً من المساوئ إلا ذكره فيهم، فأكثر الوقيعة في أمير المؤمنين والحسين ـ عليهما السَّلام ـ وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل.
فقال له الامام علي بن الحسين عليه السَّلام: «ويلك! أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوء مقعدك من النار».
ثم قال عليه السَّلام: «يا يزيد، ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضى ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب».
وعندما وافق الطاغية يزيد على طلب الامام بعد ضغط من الحاضرين...فإرتقى الامام علي بن الحسين عليهما السَّلام المنبر، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه ، خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب ثم قال: «أيُّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبع، أُعطينا: العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلْنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً، ومنّا الصدِّيق (أي أمير المؤمنين عليّ)، ومنّا الطيّار (أي جعفر)، ومنّا أسد الله وأسد رسوله (أي حمزة)، و منا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ومنّا سبطا هذه الأمّة و سيدا شباب أهل الجنّة (أي الحسن والحسين)»
وتابع سلام الله عليه بهذه الكلمات: «فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي: أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من إئتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلاّ اللّه، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللّه بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، و لم يكفر باللّه طرفة عين.
أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين، ورسولِ رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب للّه من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي اللّه على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين اللّه، وولي أمر اللّه، وبستان حكمة اللّه، وعيبة علم اللّه، سمح سخي، بهلول زكي أبطحي رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوام، مهذب قوام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، مفرّق الأحزاب، أربطُهم جنانا ، وأطبقُهم عنانا، و أجرأهم لسانا، وأمضاهُم عزيمة، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب - إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة - طحن الرحى، و يذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز؛ وصاحب الإعجاز؛ وكبش العراق، الإمام بالنص والاستحقاق ، مكي مدني، أبطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري أحدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين، الحسن والحسين، مظهر العجائب، ومفرق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد اللّه الغالب، مطلوب كل طالب، غالب كلّ غالب، ذاك جدي علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول. أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلما، أنا ابن محزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى.»
قطع الخطبة
ولم يزل يقول علي بن الحسين عليه السلام: «أنا أنا» حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن: أن يؤذن، فقطع عليه الكلام وسكت. فلما قال المؤذن: «اللّه أكبر اللّه أكبر». قال علي بن الحسين: كبّرت كبيرا لا يقاس، و لا يدرك بالحواس. لا شيء أكبر من اللّه. فلما قال المؤذن: «أشهد أن لا إله إلا اللّه». قال علي : «شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخي وعظمي.» فلما قال المؤذن: «أشهد أن محمدا رسول اللّه».
التفت علي من فوق المنبر إلى يزيد وقال:
«يا يزيد، محمّد هذا جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت و كفرت، و إن قلت إنه جدي، فلم قتلت عترته؟. و لم قتلت أبي و سبيت نساءه؟» فلم يردّ جوابا.
وبهذه الخطبة أنقلبت الموازين وأنفضحت كل أكاذيب القصر الاموي حول موكب السبايا ، حيث كان القصر الاموي وبإعلامه الضال يشيع بين الناس في المجتمع الشامي بأن هؤلاء (سبايا آل بيت النبي) خوارج ، ويخفي الحقيقة ، وما أن عرف الجمهور حقيقة الأمر كاد أن ينقلب على يزيد بن معاوية.
ولهذا اصبح موكب سبايا كربلاء يشكل عبأ ثقيلا على يزيد ومن هنا أمر يزيد بإعادة السبايا الى من آل بيت رسول الله الى موطنهم المدينة المنورة.