فهي ليلة يعجز عن وصفها البليغ، أو عن تصوّر مأساتها الشعور الرهيف، وعن ادراكها العقل الحصيف! فأجسادٌ مقطّعة في الصحراء، وخيامٌ محروقة تحت السماء، وعويل وصراخ ونحيب منبعث من الصبية والنساء!!
فيالها من ليلةٍ مُرّةٍ مرّت على أسرة رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد ذاك العزّ الشامخ، فبعد أن كانت النسوة في أخبية الجلالة تُضيئها مصابيح أنوار القداسة من النبوّة والإمامة، وإذا بها هذه الليلة في حلكٍ دامس، بين رحلٍ مُنتهَب، وخباءٍ مُلتهِب، وفزعٍ سائد، وحماةٍ صرعى، في فلاةٍ جرداء، ثمّ لا يُدرى بماذا سيندلع لسان الصباح، وبماذا سترتفع عقيرة الجناة والقتلة! أبالقتل أم الأَسر، وليس من كفيل إلّا إمامٌ عليل، وهو على خطرٍ كأنّه قتيل!
وترى أم المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليها في منامها رسول الله صلّى الله عليه وآله أشعثَ مُغْبرّاً وعلى رأسه التراب، فتقول له مستغربة هلوعة: يا رسولَ الله، ما لي أراك أشعثَ مُغبرّاً؟ فيُجيبها: «قُتل ولديَ الحسين، وما زلتُ أحفر القبور له ولأصحابه!» (أمالي ابن الشيخ الطوسي: 56، تهذيب التهذيب للعسقلاني الشافعي 2: 356، ذخائر العقبى للمحبّ الطبري الشافعي: 148، تاريخ الخلفاء للسيوطي الشافعي: 139، سير أعلام النبلاء للذهبي الشافعي 3: 213).
وانتبهت أمّ سلمة فَزِعةً فهرعت إلى القارورة التي أودع فيها رسول الله تراب قبر ريحانته الحسين، فإذا هي تفور دماً! (مرآة الجنان لليافعي 1: 134، الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 38، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي الحنفي 2: 95).
ولمّا سمع ابن عبّاس بكاءها هرع إليها يسألها الخبر، فأعلمته بأنّ ما في القارورة يفور دماً! (معالم الزلفى للسيّد هاشم البحراني: 91 - الباب 49، المنتخب للطريحي: 235).
وكان عبد الله بن عبّاس هو الآخر قد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله على تلك الحال، وبيده قارورة فيها دم، فسأله: بأبي أنت وأُمّي ما هذا؟! فأجابه: «هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطُه منذ اليوم!» (الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 12، مسند أحمد بن حنبل 1: 242، الكواكب الدرّيّة للمناوي الشافعي 1: 56، الصواعق المحرقة للهيتمي الشافعي: 116، تاريخ بغداد للبغدادي 1: 142، الخطط المقريزية للمقريزي 2: 285.. وغيرها).
وكانت ليلةً رهيبة، لم يمرّ مِثلُها على بنات الرسالة وودائع الخلافة، وهُنّ في تلك البيداء، قد فقدن البدور النيّرة والأُباة الصفوة، وإلى جنبهنّ الأشلاء المضرّجة بسيوف البغي والضلال، وهنّ مرعوبات حائرات.
ومن هنا ورد استحبابُ زيارةِ الإمام أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه يوم عاشوراء، والمبيتِ عنده ليلة الحادي عشر، استشعاراً بما جرى على حُرَم النبيّ في تلك الليلة من الهلع والأسى، ومواساةً قلبيّةً وضميريّةً لآل رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيقضي الزائر هناك ساعات بالحزن والبكاء، والأسفِ عن تأخّره عن الحضور وتمنّي النصرة، فيُكثر من قول: «يا ليتَنا كنّا معكم فنفوزَ فوزاً عظيماً»، يواسي بذلك سيدة نساء العالمين، أمَّ الأئمّة الميامين، فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، الباكيةَ على مهجة قلبها الحسين، الذي قُتِل ساغباً ظامئاً هو وأهل بيته الأبرار، وأصحابه الأوفياء.
ولقد رأتها (ذرّة النائحة) أو غيرها وهي سلام الله عليها واقفة عند قبر فلذّة كبدها الحسين سلام الله عليه تبكي، فأمرتها أن تُنشد لولدها:
أيُّها العينانِ فيضـا واسـتَهِلّا لا تُغـيـضـا
وابكِيا بالطفِّ مَيْتاً ترك الجسم رضيضا
لم أُمرِّضْه فأســلو لا، ولا كان مريـضـا
(مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 2: 189 - ط إيران - عن: أمالي المفيد النَّيسابوري، نشوار المحاضرة للقاضي أبي علي محسن بن علي التنوخي 8: 218).
فسلامٌ على سيد الشهداء، وعلى أهلِ بيته النجباء، وعلى أصحابه الأوفياء.