أما الأمر الثاني فإنهم لا يطالبون باستراتيجية دفاعية إلا بعد كل عدوان إسرائيلي او أعمال ارهابية او استحقاقات خارجية داهمة، فتندرج مطالباتهم في إطار ضرورة الامتناع اللبناني على أي رد على إسرائيل ومثيلاتها بما يؤمن لـ»إسرائيل» الظروف الداخلية اللبنانية للاستمرار في اعتداءاتها من دون الإحساس بأي خطر. ويذهب الأمر الثالث الى ظهور تشابه كبير بين هؤلاء السياسيين وبين وزير خارجية البحرين وبعض الأصوات السعودية الذين يرون ان إسرائيل في هجومها على لبنان والعراق وسورية إنما تدافع عن نفسها.
قد لا تحتاج هذه المواقف الى كبير عناء لمجابهتها وبالمنطق، فالعلوم السياسية تعطي الحق المطلق والحصري باحتكار استخدام القوة للدولة، فتستعملها في الداخل لضبط الأمن وعند الحدود لحماية البلاد. وهذا يتطلب منها بناء معادلات أمنية وعسكرية لها القدرة على تنفيذ هذه الوظائف في مختلف الأحوال.
هنا يصادف ان التطور التاريخي للدولة اللبنانية تواكب مع استيلاء المشروع الصهيوني على فلسطين المحتلة المجاورة للبنان جغرافياً.
صحيح أن السياسة اللبنانية أيدت منذ 1948 السياسة العربية المناهضة للكيان العبري، لكنها اكتفت بالتأييد الكلامي والخطابات انما على قاعدة الولاء الكامل للغرب المتبني لـ»إسرائيل»، فكان ان تبنت الدولة سياسة هروب قضت بعدم تسليح الجيش اللبناني لمعالجة أخطار «إسرائيل»، بل للزوم المهرجانات والاحتفالات وبعض متطلبات الداخل.
فشكل هذا الفرار الرسمي من أداء الواجب الوطني استجابة للهيمنة الفرنسية الأميركية ولاحقاً السعودية على لبنان. والخطأ هنا لا يتحمل وزره الجيش وانما النظام السياسي الذي لم يسلحه ولم يسلمه اوامر بضرورة التصدي علماً بأن للمشروع الإسرائيلي مطامع بأراضي لبنان ومياهه كما تثبتها الوثائق المتبادلة بين العدو الإسرائيلي وتغطياته الدولية.
لقد تبين أن النظام السياسي اللبناني يراهن على الغرب الاميركي والاوروبي لإجهاض مطامع إسرائيل، بأراضيه علماً ان هذا الغرب هو الذي سهل للمشروع الإسرائيلي باحتلال فلسطين ووزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجير هو صاحب القول الشهير بأن لبنان خطأ تاريخي بالإمكان تقسيمهِ ليستجيب للمطامع الإسرائيلية من جهة وكانتون للنازحين الفلسطينيين من جهة ثانية، وإرضاء سورية ببعض أجزائه من ناحية ثالثة، فينضبط الشرق الاوسط والعالم الإسلامي في اطار الانصياع الكامل للاميركيين.
لا بأس هنا من التذكير بأن ولادة المقاومة الوطنية والإسلامية شكلت استجابة لعنصرين:
الاعتداءات الإسرائيلية الدائمة على لبنان ورفض السياسة اللبنانية الرسمية الدفاع عن بلادها، لأنها كانت تتمنى أن تقضي هذه الهجمات الإسرائيلية على المعارضات الداخلية في لبنان وحلفائها الفلسطينيين.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي الذي أنهى في 1982 ظاهرة المقاومة الفلسطينية انطلاقاً من لبنان ليضع البلاد تحت احتلال إسرائيلي أدرك عاصمتها بيروت، لكنه تراجع الى حدود مطامعه في جنوب لبنان، حيث المياه والأرض الخصبة وسط تواطؤ داخلي علني.
هذه الظروف الصعبة من لامبالاة الدولة بالاحتلال الإسرائيلي وتواطؤ بعض أجزائها الى جانب الانهيار الفلسطيني وانكفاء المقاومة اللبنانية، أسس لولادة حزب الله كمقاومة اسلامية ووطنية تولّت مجابهة العدو من 1982 وحتى 2000 حتى استطاعت طرده من الجنوب وهزمته مرة أخرى في حرب 2006 ولم توفر الارهاب العالمي في سورية حيث شاركت في تسديد ضربة قاتلة له شملت تموضعاته في شرقي لبنان وبعض الأنحاء الأخرى.
هذا ما ينتج ملاحظات اساسية تبدأ بسؤال هؤلاء السياسيين أين كانت الدولة اللبنانية من كل هذه التطورات التي حدثت على أراضيها ومعظمهم كان مسؤولاً في تلك المراحل المتعاقبة؟
لكنه اكتفى في حينه بطلب مساعدات من السعودية والخليج ليتبين أنها إعانات شخصية لتوطيد الانصياع للإسرائيليين بما يؤكد عدم تسليح الجيش اللبناني ليس إلا نتاج ضغط غربي على سياسيين لبنانيين موالين لهم جرت ترجمتها بالزعم ان الغرب يمنع تسليح الجيش. وهذا جزء صحيح لكن الأجزاء الاخرى من خلفيات هذا التوجه هي ان الطبقة السياسية اللبنانية المسيطرة منذ 1948 لا تعتبر في العمق أن «إسرائيل» هي العدو، ألم تشارك احزاب لبنانية الى جانب العدو في الاجتياح الإسرائيلي في 1982؟
ألم تتكشف تفاصيل علاقات قوى لبنانية اساسية بالعدو في أكثر من مرحلة؟ واذا كانت السعودية والإمارات والبحرين حلفاء لـ»إسرائيل» فهل تخالف تحالفاتها اللبنانية هذه الوجهة؟
ضمن هذه التساؤلات يجب إدراج المطالبات الداخلية المشبوهة بالاستراتيجية الدفاعية وحصرية السلاح بيد الجيش في مرحلة تعتدي فيها «إسرائيل» على لبنان في ضاحيته الجنوبية.
لذلك لا بد من التنويه بموقف الرئيس ميشال عون الذي ضبط ايقاع الدولة بضرورة التصدي للعدو الإسرائيلي، مرغماً كل المراكز الدستورية على تبني مواقف وطنية وبالإكراه.
وهذا سببه توازنات القوى الجديدة التي جمعت بين حزب الله وتحالفاته وبين رئاستي الجمهورية والمجلس النيابي وأحزابهما وتحالفاتهما، ما أنتج تفوقاً في السياسة الداخلية أرغم الحلف السعودي الاميركي على طلب تطبيق استراتيجية دفاعية او طلب مناقشتها بعد التصدي للعدوان الإسرائيلي.
ان هذه المعطيات الجديدة تجعل من المفيد التساؤل لو أن لبنان بقي على سياسات الانصياع للغرب والتواطؤ حتى مع الأعداء سراً، الم تكن هذه الاوضاع دافعاً لكي يهدي الرئيس الاميركي ترامب «إسرائيل» جنوب لبنان كما فعل بالقدس والجولان؟ بما يكشف الدور الوطني الكبير لحزب الله في ردع مسبق لهذا الاحتمال الموجود عند الأميركيين، لكن ما يعطل الإعلان عنه هو تلك الانتصارات التي أنجزها الحزب في لبنان وسورية ومجمل الإقليم بمقاومته الباسلة التي احترفت واجب مجابهة الأعداء في كل زمان ومكان.
مجلة العصر .. د. وفيق إبراهيم