النظريّة المُتّفق عليها التي تقول بأنّ انتظار حُكم الإعدام أكثر ألماً من تنفيذه، تنطبق حرفيًّا على الوضع الراهن، والشّق الإسرائيلي المُستهدف بالذّات، ولهذا تعيش دولة الاحتلال حالةً من الهلع والتوتّر انتظارًا للضربة الانتقاميّة الوشيكة، وتعيش حالةً من الطّوارئ غير مسبوقة بِما في ذلك وضع قوّاتها وطائِراتها وقُببها الحديديّة في حال تأهُّبٍ قصوى.
اختراق طائرات مسيّرة للأجواء اللبنانيّة ليس عملًا جديدًا، والشيء نفسه يُقال أيضًا عن الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة التي لم تتوقّف مُطلقًا، وعلى مدى السنوات الماضية من اختراق هذه الأجواء واتّخاذها منصّةً لضرب العُمق السوري، أو قوافل أسلحة في طريقها لحزب الله بالصواريخ، لكنّ الجديد الذي أثار غضب السيّد نصر الله، في اعتقادنا، هو خرق إسرائيل لقواعد الاشتباك وإرسالها طائرتين مُسيّرتين لاغتيال شخصيّة قياديّة كبيرة من حزب الله لم يتم الكشف عن هُويّتها حتى كتابة هذه السطور، في إطار مُخطّط اغتيالات ربّما لا يستثني أحدًا.
الطائرة الأولى، وحسب تقارير إعلاميّة إسرائيليّة كانت استطلاعيّةً، ولمُتابعة هذه الشخصيّة وتحرّكاتها في شارع معوض وسط الضاحية، حيث يوجد مقر سرّي لاستضافة ضُيوف حزب الله المُهمّين، وبعض قادته الميدانيين، ويتردّد أن الشخصيّة المُستهدفة كانت تلعب دور حلقة الوصل بين حزب الله وقيادته واللواء قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ومن غير المُستبعد أن الحاج سليماني هو المُستهدف، وكان من المُقرّر أن تقوم الطائرة الثانية المُفخّخة التي جرى تفجيرها إسرائيليًّا بعد إسقاط الأولى، وانكشاف تفاصيل العمليّة، بتنفيذ عمليّة الاغتيال الفاشلة.
هذا الاختراق لقواعد الاشتباك في لبنان التي جرى الالتزام بها طِوال الـ13 عامًا الماضية، وبالتّحديد مُنذ حرب تموز عام 2006، جاء في إطار خطّة إسرائيليّة استهدفت مواقع وأهداف للأذرع العسكريّة الحليفة لإيران في ثلاث دول هي العِراق وسورية ولبنان في غُضون 24 ساعة، وبهدف استفزاز إيران للرّد وجرّها إلى حربٍ تتورّط فيها الولايات المتحدة، ولكنّ القِيادة الإيرانيّة تحلّت بضبط النّفس، وتجنّبت الوقوع بالمِصيدة، حتّى الآن على الأقل.
إقدام طائرات إسرائيليّة على قصف قاعدة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين القيادة العامّة في البقاع فجر اليوم في اختراق ثانٍ للسيادة اللبنانيّة، أرادته القيادة الإسرائيليّة ردًّا على خطاب السيّد نصر الله الذي توعّد فيه بالانتقام أوّلًا، ومُحاولة الظّهور بمظهر التحدّي ثانيًا، والانتقام أيضًا للصّواريخ الثلاثة التي انطلقت ليلة السبت من قِطاع غزّة على سيدروت، وأحدثت حالةً من الرّعب في صُفوف الحاضرين لمهرجانٍ غنائيٍّ فيها هرَبوا بالآلاف مذعورين للنّجاة بأرواحهم، سجّلتها عدسات المُصوّرين، ثالثًا.
السيّد حسن نصر الله لم يُحدّد موعد الضربة الانتقاميّة، واكتفى بالقول بأنّها اليوم أو بعد يومين أو ثلاثة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ مُتوقّع، فالقادة العسكريّون في حزب الله هُم الذين يضعوا خطّتها، ويختاروا مُنفّذيها، ويقرّروا موعدها، والأهداف التي ستضربها، وكُل التوقّعات تؤكّد أنها ستكون مُؤلمة للإسرائيليين ومُحرجةً لبنيامين نِتنياهو، وزير الدفاع أيضًا، وربّما تقضي على مُستقبله السياسي بتقويضها لحملته الانتخابيّة التي يُركّز فيها على إظهار نفسه كزعيمٍ قويٍّ ردًّا على الاتّهامات المُوجّهة إليه بانعدام خلفيّته العسكريّة أُسوةً بمُنافسيه الجِنرالات في تكتّل أبيض أزرق، وعدم خوضه أيّ معارك ميدانيّة.
السّؤال الذي يتردّد بإلحاح في أوساط المُراقبين السياسيين والعسكريين في المِنطقة، هو عن مرحلة ما بعد الرّد الانتقامي لحزب الله، فهل ستمتص القيادة الإسرائيليّة هذه الضّربة تجنّبًا لحربٍ مُوسّعةٍ وشاملةٍ وبضغوطٍ أمريكيّة، أم ستقوم بالرّد، وفي هذه الحالة قد يُطلق حزب الله كُل ما في ترسانته من صواريخ دقيقة وغير دقيقة على كُل المُدن والمطارات ومحطّات الكهرباء والمياه والمصالح الرئيسيّة في العُمق الفِلسطيني المُحتل، فالسيّد نصر الله، وقادته العسكريّون مُستعدّون لكُل الاحتمالات، وتأكيده بأنّه سيُصلّي بالقدس، وبعد تحريرها يعكِس إرادةً قتاليّةً عاليةً، وحالة رجل اتّخذ قرار الحرب دفاعًا عن النّفس، وبات مُستَعِدًّا لكُل ما يُمكن أن يترتّب عليه من تبِعات، ووفّر له العُدوان الإسرائيلي الأخير على الضاحية هذه الفرصة التاريخيّة، ويجِد مُعظم اللبنانيين يقِفون خلفه، وعلى رأسهم الرئيس ميشال عون الذي أظهر شجاعةً مسؤولةً، عندما قال إنّ العُدوان الإسرائيلي على لبنان إعلان حرب يُتيح للدولة اللبنانيّة وجيشها حق الرّد، وهذا الموقف الرجولي يعني أنّ الجيش اللبناني سيقِف جنبًا إلى جنبٍ مع المُقاومة اللبنانيّة في الدّفاع عن أمن لبنان وسيادته وكرامته.
الأيّام، وربّما الساعات المُقبلة، ستكون تاريخيّة، ونقطة تحول مصيريّة في مِنطقة الشرق الأوسط، وربّما العالم بأسره، فمن تابع قسَمات وجه السيد نصر الله وهو يتحدّث عن هذا العُدوان الإسرائيلي يُدرك أنّنا لا نُبالغ فيما نقول.
صواريخ قطاع غزّة الثلاثة التي انطلقت بعد العُدوان الإسرائيلي على لبنان والعراق وسورية رسالةٌ تؤكّد بأنّ حزب الله لن يكون وحده في أيّ حربٍ قادمة، أو هكذا نعتقد، وكُل الجبهات قد تكون مفتوحةً في معركة الدفاع عن كرامة أمّة وعزّتها .. ولن يطول انتظارنا في جميع الأحوال.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان/راي اليوم