الإفراج عن الناقلة الإيرانيّة “غريس 1” التي كانت مُحتجزةً من قبَل سُلطات جبل طارق مُنذ الرابع من تموز (يوليو) الماضي، لم يكُن انتصارًا كبيرًا للقِيادة الإيرانيّة التي أدارت الأزمة بقوّةٍ وصلابةٍ ودهاء، وإنّما أيضًا هزيمةً للولايات المتحدة الأمريكيّة التي حاولت عرقلة هذا الإفراج عندما تقدّمت بطلبٍ رسميٍّ لمُصادرتها، وقُوبِل طلبها هذا بالاحتقار والتّجاهل من أقرب حُلفائها.
جون بولتون، مُستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للأمن القومي زار لندن قبل ثلاثة أيّام، والتقى رئيس الوزراء بوريس جونسون، ومارس ضُغوطًا كبيرةً لمنع الإفراج عن السفينة، حفاظًا على ماء وجه رئيسه وإدارته، ولكن هذه الجُهود باءت بالفشل، لأنّ الحُكومة البريطانيّة أرادت النّأي بنفسها، ولو جُزئيًّا، عن هذه السياسات التصادميّة الأمريكيّة الحمقاء والمُتهوّرة، والانحياز لمصالحها في المِنطقة، وتسريع الإفراج عن ناقلتها المُحتجزة في ميناء بندر عباس الإيراني، وهذا عين العقل والحِكمة.
احتجاز الناقلة الإيرانيّة وبتحريضٍ من إدارة ترامب، ولأسبابٍ استفزازيّةٍ غير مُقنعة، كان خطيئةً كُبرى ارتكبتها الحُكومة البريطانيّة عكَست “سوء تقدير” رد الفِعل الإيراني، عندما اعتقدت أنّ السلطات الإيرانيّة ستأتي إليها راكعةً مُتذلّلةً مُعتذرةً، وطالبةً الصّفح والغُفران، وعلى رأي المَثل العربي الذي يقول “الذي لا يعرِف الصقر يشويه”.
كان واضحًا، ومُنذ اللّحظة الأولى التي حذّر فيها السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة من أنّ استمرار بريطانيا في احتجاز هذه النّاقلة سيُقابل برد فعل مُماثل، إن لم يكُن أكبر، وبعد مُهلةٍ استمرّت أسبوعين، لم يتم خلالها الاستجابة لتحذيراته، أثبت الرّجل مرّةً أخرى أنّه يقول ويفعل، وأوعز للحرس الثوري الإيراني لتنفيذ تهديداته، وبادر فورًا في اقتياد السّفينة البريطانيّة من وسط أربع بوارج حربيّة أمريكيّة مِثل “النّعجة” وصوّر المشهد كاملًا، ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي ليراه العالم بأسره، في خطوةِ تحدٍّ غير مسبوقة.
السلطات البريطانيّة أخطأت مرّتين، الأولى عندما امتثلت للأوامر الأمريكيّة، واحتجزت النّاقلة، والثانية عندما لم تُصحّح هذا الخطأ، ولم تأخُذ التّهديدات الإيرانيّة بالجديّة المُتوقّعة، ولكنّها في اعتقادنا صحّحت هذا الخَطأ بسرعةٍ عندما رفَضت التّجاوب مع جون بولتون، وطلب حُكومته مُصادرة النّاقلة، وأظهرت استقلاليّةً لافتةً عن هذه الإدارة الأمريكيّة المُرتبكة والغبيّة التي باتت “دُميةً” في أيدي اللوبيّات الإسرائيليّة.
قُلناها ونُكرّرها، إنُ ايران تعيش حاليًّا “إرادة استشهاديّة” تجسّدت بشكلٍ واضحٍ عندما أوعزت لخلاياها الثوريّة بإعطاب سِت ناقلات نفط في بحر عُمان ( حسب راي الكاتب )، وأسقطت طائرة تجسّس أمريكيّة مُسيّرة اخترقت أجواءها فوق مضيق هرمز ببضعة أمتار، ونفّذت تعهّداتها بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم بمُعدّلاتٍ أكبر، وتفعيل مفاعل آراك النووي مُجدّدًا فور انتهاء مُهلة الشّهرين التي أعطتها لأوروبا لتخفيف الحِصار الاقتصادي الأمريكي المَفروض عليها.
تشابه البقر على الرئيس الأمريكي ترامب عندما اعتقد أنّ إيران ستتصرّف مِثل حُلفائه العرب في الخليج ( الفارسي) ، أيّ سيرضخون لكُل طلباته، وينفّذون كُل إملاءاته، ويفتحون خزائنهم على مِصراعيها لابتزازاته الماليّة دون نقاش، وكم كان مُخطئًا في حِساباته.
النّاقلات الإيرانيّة ستتجوّل في المضائق العالميّة بما فيها مضيق جبل طارق نفسه بكُل حريّة ودلال بعد اليوم، لأنّه لن تجرؤ أيّ دولة على احتجازها، بِما في ذلك الولايات المتحدة، لأنّها ستدرك أنّ الرّد سيكون جاهزًا، تمامًا مثلما حصل لبريطانيا والبرازيل، وربّما يُفيد التّذكير بأنّ الأخيرة حاولت المَس بسُفنٍ إيرانيّةٍ وكرامتها الوطنيّة عندما رضخت لطلبٍ أمريكيٍّ برفض تزويدها بالوقود بعد إفراغها حُمولتها، فجاء الرّد الإيراني مُوجِعًا بوقف كل الواردات البرازيليّة من اللّحوم وغيرها.
إدارة الرئيس ترامب خسِرَت الجَوَلات الأولى من الحرب في الخليج (الفارسي) عسكريًّا ومعنويًّا، ووجدت نفسها عاجزةً عن الانتقام لإسقاط طائرتها، وفاقدةً لمصداقيّتها عندما ادّعت أنّها أسقطت طائرةً إيرانيّةً مُسيّرةً وستَبُث “فيديو” يُؤكّد هذه الحقيقة، وننتظر هذا الفيديو مُنذ شهر، ويبدو أنّ انتظارنا سيطول.
سياسة العين بالعين.. والناقلة بالناقلة، هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إدارة الرئيس ترامب وحلفاؤها، والإيرانيّون لن يرضخوا للحِصار ويموتوا جوعًا، ولن يتخلّوا بالتّالي عن حقّهم المشروع في العيش الكريم وامتِلاك أسباب القوّة للدّفاع عن أنفسهم في مُواجهة هذا العدوان الاستكباري الأمريكي الصّريح.
بريطانيا رضخت للتّهديدات وأدركت جدّيتها وأفرجت عن الناقلة الإيرانيّة وحسنًا فعلت، ونحنُ على ثقةٍ أنّ إدارة ترامب سترضخ في نهاية المطاف، وتعود إلى الاتفاق النووي، وترفع العُقوبات الاقتصاديّة الظّالمة، لأنّ الخِيارات الاخرى مُدمّرة وباهظة التّكاليف لها ولحُلفائها وقواعدها في المِنطقة، بل وللعالم بأسره.
ترامب لا يعرف شيئًا اسمه الكرامة الوطنيّة، ولا يعرف أيضًا أنّ هُناك شعوبًا تُضحّي بأرواحها ودِمائها دفاعًا عنها، وعلى رأسها الشّعب الإيراني وحُلفائه في محور المُقاومة.
هذا الانتصار الإيراني في واقعة النّاقلة “غريس1” هي رسالة لـ"إسرائيل"، وحُلفائها الجُدد من المُطبّعين العرب، نأمل أن يستوعبوا مضمونها، وكُل حرف فيها.
إنّه انتصار لمحور المُقاومة، وبداية فجر جديد للأُمّة، ونقطة النهاية لعصر الهزائم والهيمنة الأمريكيّة الإسرائيليّة، والقادِم أعظم.. والأيّام بيننا.