على ضوء التوجيهات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ومن خلال ملاحظة ما يتحقق على صعيد العمل والامتثال من الفوائد الملموسة بالوجدان المؤكد والمتأكد بما هو المعلوم لدى كل مؤمن واع وملتفت إلى ضرورة اتصاف الله سبحانه بكل الصفات الكمالية ومنها العدل والرحمة والحكمة، وتعني الصفة الأخيرة عدم صدور أي تشريع من قبل الله سبحانه بلا حكمة وعدم إيجاده مخلوقاً بلا فائدة كما تقدم بيانه مكرراً.
وبعد التفات المكلف إلى غاية التشريع يُطلب منه بذل الجهد في سبيل تحقيقها على الصعيد العملي ـ وذلك بأن يُحقق غاية فريضة الحج والصوم مثلاً وهي التقوى ـ من خلال الاتصاف بها ـ بعد أن عرف أنها من أبرز الغايات والفوائد المنشودة من وراء تشريع وجوبهما على ضوء الآيات المباركة المصرحة بهذه الغاية السامية ـ وهكذا بالنسبة إلى أية فريضة من الفرائض الأخرى كالصلاة والخمس والزكاة ونحوها من الواجبات الشرعية المباركة ـ وقد مرت الإشارة إلى الغاية المستهدفة من تشريع وجوبها فيما سبق من أبحاث هذا الكتاب.
وبإمكان الشخص الذي يقوم بدور التعريف وتعليم أحكام الحج للحجاج الذين تحمل مسؤولية تأدية فريضتهم على الوجه الصحيح من حيث الشكل والصورة أن يلفت أنظارهم إلى الحكمة المستهدفة بعد أن يتفقه في أحكام الدين بصورة عامة والحج بصورة خاصة كمطلب شرعي يُطلب منه تحقيقه على الصعيد العملي في حق نفسه ويمهد للآخرين الذين انطلقوا معه واعتمدوا عليه ـ سبيل تأدية فريضتهم كاملة شكلاً ومضموناً صورة وهدفاً ويكون من نتائج إدراك غاية أي شعار من شعارات الحج وغيره من الواجبات الإسلامية والتنبه لأهمية هذه الغاية ـ التحرك في طريق تحقيقها على الصعيد العملي.
وللتوضيح نمثل بشعار وقفة عرفات ـ موضوع الحديث، فإن الحاج الواعي لفلسفة هذا الشعار المبارك ينطلق في طريق تحقيقه وذلك بالانفتاح على إخوانه المسلمين المنتمين إلى غير مذهبه على أساس أن الاختلاف في ذلك كالاختلاف في الرأي بمعناه العام الذي لا يؤدي عند العقلاء الواعين من المسلمين ـ لأن يفسد للود وللوحدة قضية بل كل ما يقتضيه ذلك هو حصول الحوار الهادف الهادىء بين رموز أرباب المذاهب ـ بالحكمة والموعظة الحسنة كما أدبنا القرآن وتكون النتيجة إما الالتقاء والاتفاق نظرياً وعملياً ـ ليحصل التكامل والتعاون على البر والتقوى ويترتب على ذلك ما ينفع الجميع. أو البقاء على الاختلاف في الرأي ـ مع البقاء على احترام كل فريق لمذهب الآخر من أجل المحافظة على وحدة الموقف التي تعود على الجميع بالعزة والقوة وتمكنهم من تحقيق أهدافهم المشتركة وأبرزها التحرير وتقرير المصير.
وتبرز أهمية الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبلها المتين من خلال ملاحظة ابتداء الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) دعوته المباركة بالدعوة إلى الاعتراف بشعارها المقدس وذلك بقوله : قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا، لأنهم عندما يتدبرون معنى هذا الشعار بعقولهم ويؤمنون بمضمونه بقلوبهم ثم يطبقونه على الصعيد العملي بسلوكهم ليضموا إلى توحيد العقيدة توحيد العبادة ـ
يصبحون بهذا وذاك أمةً واحدة كما وصفها الله في كتابه الكريم بقوله تعالى: (إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).
وحيث أن الإسلام جاء رحمة للعالمين فقد بيّن للعقلاء كلهم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم ـ الحكمة في خلقهم شعوباً وقبائل وميولاً متنوعة ونزعات مختلفة وصرح بأن المقصود من ذلك التعارفُ والتعاطفُ والتكامل بالتعاون على تحقيق مصلحة الجميع ودفع أو رفع ما يضرهم حيث قال سبحانه: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُم عِند اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
وإذا لاحظنا مفردات الشعائر الإسلامية نجد أنّها كلها تحمل في طيها روح الوحدة وقلب التوحيد من أجل أن ترسخ وحدة المسلمين وتبقيهم دائماً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
سماحة الشيخ حسن طراد