مدينة فائقة الحداثة في قلب الصحراء، بلا سيارات، بلا تلوث، بمباني زجاجية ومرايا يتحكم بها الذكاء الاصطناعي!.
هذا ما قدمته المملكة العربية السعودية للعالم عام ٢٠١٧ بمشروع نيوم العملاق!.
لكن الآن، وبعد ما يقرب من عقد من الزمان، يبدو أن هذا المشروع أقرب إلى السراب منه إلى الواقع!.
هل كان من المقرر بناء نيوم حقاً أم كان مجرد حيلة دعائية؟.
في عام ٢٠١٧، كشف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن مشروع نيوم بهدف تقليل اعتماد المملكة العربية السعودية على النفط وتنويع اقتصاد البلاد.
والآن، بعد ما يقرب من عقد من الزمان، لا توجد أي أنباء عن اكتماله.
يقع مشروع نيوم، الذي تبلغ تكلفته ٥٠٠ مليار دولار أمريكي، في منطقة تبوك بالمملكة العربية السعودية، ويغطي مساحة ٢٦,٥٠٠ كيلومتر مربع، ويهدف إلى جذب ٢٥٪ من حجم النقل العالمي.
في نيوم، تُوفّر محطات الطاقة المتجددة، ومن المتوقع أيضاً توفير وسائل نقل سريعة باستخدام السيارات والطائرات ذاتية القيادة، والهدف هو إنشاء نظام بيئي ذكي باستخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة.
تتكون مدينة نيوم من عشر مناطق، لم يُعلن حتى الآن سوى عن تفاصيل أربع مناطق منها، وهي ذا لاين، أوكساجون، تروجينا، وسندالة.
وخلافاً للدعاية الإعلامية، تُظهر الدراسات أنه بعد حوالي عقد من انطلاق مشروع نيوم، لم يتقدم المشروع وفقاً للجداول الزمنية والخطط الموضوعة.
ووفقاً لتصريحات نديمي النصر، الرئيس التنفيذي لمشروع نيوم، لم يُحرز المشروع سوى 20% من التقدم في عام 2023.
كما تُظهر مراجعة الخرائط الجوية حتى عام 2024 أن تقدم المشروع كان ضئيلًا.
ووفقا لتقرير بلومبيرغ، فقد اقتصر طول مدينة ذا لاين، التي يبلغ طولها 170 كيلومتراً، على 2.4 كيلومتر.
بالإضافة إلى ذلك، لم يصل بناء بعض الأجزاء المصممة من هذا المشروع إلى مرحلة التنفيذ بعد.
لذلك، يُمكن اعتبار مدينة نيوم مجرد طموح لمحمد بن سلمان، لم يُحقق أهدافه عمليًا، بل فشل.
دعونا نلقي نظرة على سبب تحول هذا المشروع السعودي العملاق إلى حلم؟.
طموح هذا المشروع وواقعيته:
التخطيط والإعلان عن تكلفة مشروع نيوم البالغة 500 مليار دولار، في حين أن المملكة العربية السعودية تُواجه عجزاً حاداً في الميزانية في السنوات الأخيرة، بلغ 21 مليار دولار في عام 2023 وحده.
فشل الحكومة السعودية في جذب المستثمرين الأجانب:
وفقاً للخطط الأولية، كان من المقرر تمويل جزء كبير من ميزانية نيوم البالغة 500 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي، ولكن نظراً للمخاطر السياسية والاقتصادية، لم يُسجل أي استثمار أجنبي يُذكر في هذا المشروع. لا يُمكن بناء مشروع بهذا الحجم دون جذب رأس مال أجنبي.
توقعات غير واقعية بشأن تطبيق الذكاء الاصطناعي في مدينة "نيوم": يعتقد بعض الخبراء أن مقدمي مشروع مدينة "نيوم" القائم على الذكاء الاصطناعي يسعون فقط للاستفادة من الموارد الضخمة للسعودية لاختبار نماذج أولية لمنتجاتهم، ولا يوجد ضمان لتحقيق ذلك حتى بعد إنفاق الميزانية المحددة.
والسؤال الآن:
لماذا تم تحديد هذا المشروع؟
١- بث الأمل في نفوس الشعب السعودي بتنمية البلاد:
رافقت إجراءات التطوير والتحديث السريعة في دول الخليج الفارسي، بما فيها الإمارات العربية المتحدة، دعاية مكثفة في وسائل الإعلام العربية. وقد خلقت هذه الإجراءات والدعايات الكثير من المشاعر السلبية لدى النخبة والشعب السعودي، باعتبارهم يزعمون ريادة العالم العربي في تنمية بلادهم. لذلك، يسعى حكام السعودية، من خلال طرح مثل هذه المشاريع، إلى بث الأمل في نفوس الناس بمستقبل التنمية السعودية.
٢- سعي بن سلمان لترويج صورة إيجابية عن السعودية أمام العالم:
سعياً لتحسين صورتها أمام العالم، والتي تُعرف غالباً بكونها دولة إرهابية ومُحرضة على الحرب، سعت المملكة العربية السعودية إلى اتخاذ إجراءات مثل إنشاء مدينة نيوم السياحية، ليتمكن السياح من تسجيل حضورهم وتقديم صورة إيجابية عن المملكة للعالم من خلال تواجدهم في هذه المناطق السياحية. كما قرر حكام السعودية الترويج لبلادهم من خلال الحملات الإعلامية المحيطة بنيوم.
٣- تقديم صورة مؤثرة وقوية لابن سلمان أمام الرأي العام السعودي والعربي بهدف تعزيز النفوذ السعودي:
سعت السعودية إلى ترسيخ قيادتها في العالم العربي عبر التدخل في العمليات السياسية وإثارة الأزمات والحروب في دول أخرى بالمنطقة، بما في ذلك لبنان واليمن والعراق وسوريا. ولما كانت هذه الإجراءات قد كلفت السعودية مبالغ طائلة، فقد حرصت على تحقيق أهدافها من خلال طرح مثل هذه المشاريع، وبناء صورة عصرية ومتطورة لها لدى الرأي العام العربي باستخدام القوة الناعمة.
4- التسريع في عملية تجديد الثقافة والاجتماع في السعودية والانتقال من مجتمع تقليدي إلى دولة تُعتبر حديثة:
تُعتبر السعودية مجتمعاً تقليدياً يعتنق العادات والتقاليد الدينية والقبلية، حيث يتمتع علماء الدين الوهابيون بمكانة ونفوذ خاص في البلاد. ومع ذلك، منذ تولي محمد بن سلمان الحكم، تتجه البلاد نحو الحداثة والاندماج في الثقافة والعادات الغربية. ومع ذلك، هناك عقبات في هذا المسار، حيث يسعى الحكام السعوديون إلى التغلب عليها من خلال مشاريع السياحة وتطبيع الأمور التي تتعارض مع الدين. لذلك، تم التأكيد بشكل واضح على اختلاف القوانين المطبقة في منطقة مشروع "نيوم" عن القوانين السارية في الأراضي السعودية.
5- التغطية على القمع الشديد للأمراء المنافسين لبن سلمان ومعارضيه الآخرين للوصول إلى السلطة:
بعد توليه السلطة، سجن محمد بن سلمان أو قتل الأمراء المعارضين. كما قمع بشدة المعارضين من خارج العائلة المالكة، بما في ذلك جريمة قتل خاشقجي المروعة. لذلك، قدم بن سلمان خطة نيوم للتغطية على هذه الأحداث وفرض نفوذه وقدراته.
6- المنافسة مع دول الخليج الفارسي، وخاصة الإمارات العربية المتحدة:
من أسباب مشروع نيوم أيضًا منافسة المملكة العربية السعودية لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي طرحت خطتي رؤية 2020 ورؤية 2030، ومشاريع التنمية الضخمة لأجندة 2071، والمبادرة العالمية "دبي لحلول المستقبل" لتطوير وتنويع اقتصادها.
تسعى المملكة العربية السعودية، بقيادة محمد بن سلمان، إلى تحويل نفسها إلى مركز رائد لخدمات الأعمال والترفيه، على غرار الإمارات العربية المتحدة، بما يعزز دورها الإقليمي والعالمي، بالإضافة إلى زيادة إيراداتها غير النفطية.
7- محاولات شركات الاستشارات الأمريكية والبريطانية نهب رأس المال السعودي من خلال استغلال طموحات المملكة:
وقّعت شركات استشارية أمريكية وبريطانية عقودًا مع المملكة في مراحل مختلفة من مشروع نيوم، بما في ذلك تطوير الاستراتيجية والاستشارات، وحصلت على رسوم باهظة.
ومع ذلك، لم يُحرز أي تقدم عملي في هذا المشروع، بل إن التراجع عن الأهداف المرسومة سينقل رأس مال البلاد إلى شركات أمريكية وبريطانية دون تحقيق أي إنجازات.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن مشروع نيوم الطموح نجح في تقديم صورة إيجابية وتقدمية للمملكة العربية السعودية على المدى القصير بفضل حجم الإعلانات الإعلامية الكبير، إلا أنه فشل عملياً.
وفي الواقع، لم يفشل هذا المشروع في تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية فحسب، بل فرض تكاليف باهظة على الحكومة والشعب السعودي.