البث المباشر

معرفة الكون من منظور القرآن الكريم

السبت 11 أكتوبر 2025 - 14:44 بتوقيت طهران
معرفة الكون من منظور القرآن الكريم

ليست الآية 30 من سورة الأنبياء المباركة مجرد قصة من الماضي، بل هي نموذج لتفكيرنا اليوم حيث تُذكرنا هذه الآية الشريفة بأن للعالم غاية، وأن الخلق ليس صدفة، وأن الإنسان جزء من هذه الغاية.

يكشف القرآن الكريم في آية شريفة رائعة من سورة الأنبياء المباركة، سر خلق السماوات والأرض في عبارة موجزة لكنها عميقة:

«أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا»" (سورة الأنبياء، الآية 30).

تعد هذه الآية الشريفة من أهم آيات القرآن الكريم حول أصل الوجود. وفي صورة سؤال مُلهِم، يرفع الله نظر الإنسان إلى ما وراء مستوى الحياة اليومية ويدعوه إلى التأمل في بداية الخلق.

ويتحدث سبحانه تعالى في هذه الآية، عن مفردتي "الرتق" بمعنى الانغلاق والاستمرار، وعن "الفتق" بمعنى الانقسام والانفصال؛ وهي صورة تصف بداية العالم بأبسط وأعمق صورة من الناحية اللغوية أم المفاهيمية.

 

من الوحدة الأولى إلى فتق الكون

يُظهر تعبير "كَانَتَا رَتْقًَا" بوضوح أنه في مرحلة ما من تاريخ الوجود، كانت السماوات والأرض متحدتين ومضغوطتين. ثم يتحدث القرآن عن اللحظة التي انقسمت فيها هذه الوحدة وظهر التعدد والتمدد بفعل "فَفَتَقْنَاهُمَا". هذا الانقسام ليس مجرد حدث طبيعي، بل هو تجلٍّ لإرادة الله وتدبيره في تنظيم العالم.

من وجهة نظر القرآن الكريم، فإن هذا التحول ليس عرضيًا أو عبثيًا. كما ورد في موضع آخر من القرآن الكريم:

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ».

قد تم إنشاء الكون على أساس العلم والحكمة والتدبير الإلهي.

ولا تتحدث هذه الآية الشريفة فقط عن استمرارية أولية ثم انقطاع، بل تُذكرنا أيضًا بمسار الوجود الهادف؛ مسار تطور من الوحدة إلى التنوع، ومن السكون إلى الحياة.

ومن اللافت للنظر أن كلمة "الرتق" في التفسيرات الإسلامية، بما فيها تفسير الميزان، تعني أيضًا انقطاع المطر عن السماء وانعدام النمو على الأرض. كما جاء في فحوى الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع):

"كانت السماء رتقا فلا تُمطر، والأرض رتقا فلا تُنبت نباتًا، ففتح الله السماء بالمطر والأرض بالنبات".

يفتح هذا الحديث بابًا جديدًا من المعنى المقصود، ويُظهر أن هذا الانقطاع ليس مستمرًا على المستوى الكوني فحسب، بل أيضًا في النظام البيولوجي للأرض.

 

صلة عجيبة بالحياة: الماء، أصل كل شيء

وفي الآية الشريفة نفسها، يقول الله تعالى: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» ".

هذه الجملة القصيرة، ولكنها مؤثرة، تُصوّر حلقةً حيويةً تربط بين انشقاق السماوات والأرض وظهور الحياة.

يتحدث القرآن الكريم هنا عن مرحلة، تمت فيها تهيئة ظروف نشوء الحياة بعد الانشقاق (الفتق) والانفصال الأوليين، ولعب عنصر الماء دورا كمصدرٍ مشترك لجميع الكائنات الحية.

لا يتوافق هذا القول مع المعطيات العلمية الحديثة حول ضرورة الماء للحياة فحسب، بل يُظهر أيضا أن الحياة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة تصميم وتدبير إلهي. وفي الواقع، يُذكّرنا القرآن الكريم، من خلال هذه العبارة، بدور الله الخالق منذ بداية الوجود وحتى اللحظة التي نبضت فيها الحياة في أول كائن حي.

وهذه النظرة الإلهية هي التي تُعلّم الإنسان أن يرى قدرة الله وحكمته اللامتناهية وراء كل قطرة ماء وفي كل علامة من علامات الحياة.

 

حوار القرآن مع العلم: انسجام مذهل

يعتبر العديد من علماء المسلمين، وحتى بعض الباحثين الغربيين، الآية 30 من سورة الأنبياء من أقرب الإشارات في النصوص الدينية إلى مفهوم "بداية واحدة للكون". وتتوافق نظرية "الانفجار العظيم" (Big Bang)  العلمية، التي تفسر نشوء الكون من حالة واحدة متراصة، بشكل مدهش مع موضوع "الرتق" و"الفتق" في القرآن الكريم.

وبالطبع، لا يهدف القرآن الكريم إلى أن يكون كتابا في علم الفيزياء أو الفلك. ولا يريد أن يقدم صيغا علمية، بل هدفه يرتكز على إيقاظ القلوب والعقول البشرية لحقيقة أعمق: أن وراء كل نظام طبيعي وعملياته تكمن قوة واعية، وإرادة حكيمة، وإله خالق. إله خلق الوجود كله بـ "كن" واحدة:

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (سورة يس، الآية 82).

في الواقع، يُخبرنا العلم بأنه "كيف" بدأ الكون، بينما يُخبرنا القرآن الكريم بأنه "لماذا" بدأ الكون حيث العلم يُفسر العملية، بينما يُفسر القرآن الكريم المعنى. ويستكشف العلم البنية، بينما يُبين القرآن الكريم المصدر.

 

دعوة للتفكر والإيمان

الرسالة المحورية للآية 30 من سورة الأنبياء المباركة هي أن خلق الوجود وظهور الحياة لم يكونا صدفةً أو عبثًا. ووراء كل مرحلة من مراحل انفتاح العالم وانتظامه، إرادة إلهية.

تُذكرنا هذه الحقيقة أيضًا بمسؤولية الإنسان: فهو ليس كائنًا بلا جذور في ركن من أركان الكون، بل هو جزء من خطة الخلق العظيمة، وبفهم هذا المعنى، يجب عليه أن يُدرك مكانته وواجبه أمام الخالق.

وقد دعا القرآن الكريم الإنسان مرارا وتكرارا إلى التأمل في هذا الأمر:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»" (سورة آل عمران، الآية ١٩٠).

تتجاوز هذه الآيات حدود النظرة المادية المألوفة، وتجعلنا ندرك الحقيقة الكامنة وراء كل ظاهرة: عالم بدأ من وحدة، ثم فتق، فوجد نظاما، وسار نحو الحياة والمعنى بتدبير إلهي.

 

النظرة القرآنية للكون، نظرة تسعى إلى المعنى والباعث لليقظة

ليست الآية 30 من سورة الأنبياء المباركة مجرد قصة من الماضي، بل هي نموذجٌ لتفكيرنا اليوم حيث تُذكرنا هذه الآية الشريفة بأن للعالم غاية، وأن الخلق ليس صدفة، وأن الإنسان جزءٌ من هذه الغاية.

إذا كانت السماوات والأرض رتقا وفُتقت بأمرٍ إلهي، فلا بد للإنسان أيضًا من الانفصال عن الغفلة والجهل ليبلغ المعرفة والإيمان.

وفي عالم يتحدث فيه العلم عن "الكيفية: كيف بدأ الكون؟"، يُواجهنا القرآن الكريم بـ "السبب: لماذا بدأ الكون؟".

ويتم الكشف في هذا الأمر "لماذا"، عن معنى الحياة، مسؤولية الإنسان، والوجود اللانهائي للخالق.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة