فمنذ نهضة سيد الشهداء (عليه السلام)، طُرحت تساؤلات بين النخب والمثقفين، وحتى عامة الناس، حول الدافع الرئيسي للإمام الحسين (عليه السلام) للقيام بهذه الخطوة؟.
هل كانت دعوة أهل الكوفة فلسفة نهضته، أم كانت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) سببًا لدعوة الكوفيين؟.
هل كان تأسيس حكومة إسلامية على غرار الإمام علي (عليه السلام) الدافع الرئيسي والهدف الأسمى لهذه الحركة، أم أن إحداث إصلاحات وتغييرات محدودة في بنية الحكومة الإسلامية كان أيضًا بمثابة تحقيق لهدف الإمام (عليه السلام)؟.
تشير هذه التساؤلات، وأمثالها، إلى مواقف ووجهات نظر الأفراد تجاه هذا الحدث. وبالنظر إلى هذه التفاعلات المتنوعة منذ وقوع هذه الحادثة إلى يومنا هذا، فقد تحدث كل مفكر مسلم تناول تاريخ عاشوراء عن واقعة كربلاء وأهدافها وفقًا لفهمه وإدراكه لهذا الحدث.
إن الفكر السامي لسيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، الذي تبلور في نهضته العظيمة، له رموز وتجليات متعددة، وكل عالم بدوره، وفقًا لشخصيته العلمية والثقافية، يبحث عن وجه النهضة الحسينية (عليه السلام) ويستنتج عمق معتقدات ذلك الإمام الهمام (ع) وحتى اتجاهاته.
إن طبيعة هذا النقاش وهدفه تتطلب منا تفسير كلمة "الإمام" بمعناها الديني من منظور الشيعة الإمامية. والإمام إنسان، وليس إلها أو نصف إله؛ إنه إنسان بلغ الكمال الذي يبتغيه الإسلام؛ هو إنسانٌ متفوق، وليس خارقًا للطبيعة؛ هو إنسانٌ بلغ الكمال، وهو في الوقت نفسه قائدٌ ومسؤولٌ عن هداية الأمة.
وورد في النصوص الشيعية، عن الإمام:
"إن الإمام حجة الله في الأرض؛ هو الكتاب الناطق لله سبحانه وتعالى؛ وهو مرآة الصورة الكاملة للإسلام؛ الإسلام متجسد؛ هو إنسانٌ يلعب دور الميزان في مشاعره وأفكاره وأوامره وأقواله وأفعاله، وحتى صمته.
وجاء في حديثٍ للنبي (ص): "أنا ميزان الأعمال وعليٌّ لسانه".
وباختصار، الإمام إنسانٌ فوق البشر وفي قمته، وليس أعلى منهم. هو خليفةٌ وليس نبيًا.
يجب أن نتحدث عن مفهوم الإمام وضرورة وجوده من المنظور الشيعي، وأبعاد مفهوم الإمام من المنظور الديني. ولفهم استمرارية هذا النقاش، ورسم صورة واضحة للإمام، لا بد من دراسة المبادئ التالية:

أولاً:
"الحياة" بمعناها الديني حركة مستمرة نحو الكمال. وقد لخص القرآن الكري هذا المفهوم في عبارة واحدة: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، أي أننا نعود إلى الله دائمًا، أي إلى الكمال المطلق. نجد هذا المفهوم في العديد من التعاليم الدينية، التي تأمرنا بالحركة الدائمة والسعي المستمر حتى آخر نفس.
ثانيًا:
"الحركة" تعني التغيير المستمر، واتجاهها نحو الكمال المطلق، أي نحو الله. وهذا التوجه يقتضي أن تكون الحركة دائمًا نحو التطور. لأن الحياة بمعناها الديني حركة مستمرة وتغير مستمر نحو التطور، وبالتالي رفض أي جمود أو تراجع.
ثالثًا:
"الحركة الضرورية" نحو التطور - والتي يصاحبها بطبيعتها الفشل والمرارة - تكون أحيانًا هادئة وأحيانًا عنيفة، حسب ظروف الحركة.
رابعًا:
إن "وجود الخير والشر في المشاعر والحياة"، قبل خوض غمار الحرب في الخارج، يُنشئ حربًا دائمة في داخل الإنسان. هذه الحرب هي الدافع نفسه الذي يدفع الإنسان باستمرار نحو الكمال.
يتحرك الإنسان نحو الكمال، ودافع هذه الحركة هو وجود عنصري الخير والشر في داخله وخارجه، وإلا فلو لم يدرك الإنسان الشر أو لم يوجد الشر في الخارج، لما وُجدت إرادة حرة، أي حرب أو جهد دائم، ونتيجة لذلك، لما وُجدت حركة دائمة نحو الكمال.
إن دور الإمام، من منظور الشيعة، هو حماية الدعوة والقيادة، إلا أنه ليس نبيًا ولا يُوحى إليه، بل هو معصوم عن الخطأ والخطيئة. هذا يعني أن الإمام المعصوم، وليس الإمام في المصطلح المعاصر، هو رمز الإرادة الإلهية في حركة الإنسان نحو الكمال. ولهذا يقول الشيعة إن تعيين الإمام يكون بالنص لا بالاختيار. لذا، فإن الإمام رمزٌ للإرادة الإلهية، أي أنه عندما يواجه الإنسان صعوباتٍ وعقباتٍ (تارةً صغيرةً وأخرى كبيرةً) في طريقه إلى الكمال، فإنه يُعينه.
وباعتبار الإمام رمزًا للإرادة الإلهية، يتضح معنى هذا الحديث أن "أعظم البلاء على الأنبياء ثم على الأوصياء". وهذه البلاء نتيجة مسؤوليتهم في دعوتهم الدائمة. كما نعلم معنى هذا الحديث أن "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية". وهذا الحديث لمواجهة خطر الانحراف وهيمنة عناصر الشر.
هذه الاستمرارية في قيادة الناس ونصرتهم في الحرب الداخلية والخارجية ودفعهم نحو الكمال هي تفسيرٌ صحيحٌ لسنة الله في الخلق: "ولن تجد لسنة الله تبديلًا". هنا، يكون التغيير والتطور والكمال متناغمًا ومنسجمًا مع الثبات والإطلاق. وهو أمرٌ لا تتغير أسسه، لكن مضمونه متغير. لذا، فإن السنة الخالدة والمطلقة تتطلب تغييرًا مستمرًا، وهنا يلتقي التغيير والثبات.
كل نبي، ومن بعده الإمام والوصي، ومن بعده نوابه (خلفاؤه)، أي المذكورين في الحديث: «كل فقيه عاقل، حافظ للدين، عاصٍ لهوى نفسه، مطيع لأمر مولاه، فحجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم».
إن هؤلاء القادة، أي النبي والإمام وممثل الإمام، مسؤولون أمام الله عن سلوك الناس وحركتهم المستمرة نحو الكمال، مهما كان الثمن وفي أي ظرف، حتى لو تطلب الأمر التضحية، أي الشهادة.
إن الإمام مسؤول عن تقديم الشهادة، وعند الضرورة، المبادرة بالشهادة، حتى تبقى مسيرة الإنسان نحو الكمال سالمة، مهما واجه من عقبات وصعوبات، صغيرة كانت أم كبيرة. ولذلك يعارض علماء الشيعة، أو بعضهم على الأقل، تصنيف التشيع دينًا منفصلًا عن المذاهب الأخرى، بل يقولون إن التشيع يعني المسؤولية، وهو عقيدة الأئمة وسلوكهم الريادي القائم على الاجتهاد والجهاد. وهذه العقيدة هي النظر الصحيح إلى المرحلة التي نحن فيها، والسعي لتحقيق الشهادة لتحويلها إلى مرحلة أفضل.
وهنا نصل إلى نقطة مشتركة عميقة بين الإمامة والشهادة، لأن الإمامة تعني مسؤولية حماية مسيرة الناس، ومن الطبيعي أن تتطلب هذه المسؤولية أحيانًا درجة الشهادة. لذا، فالشهادة جزء من الإمامة، ومن هنا نفهم معنى الحديث الوارد عن الأئمة: "ما منا إلا مقتول أو مسموم".
يوضح هذا الحديث أبعاد نضالهم في سبيل المسؤولية التي حملوها على عاتقهم. وهنا نصل إلى خطٍّ طويل من تاريخ الشيعة، تُعدّ عاشوراء صفحةً مشرقةً منه؛ نفس الخطّ الصعب والمأساوي الذي جعله الإمام الحسين (ع)، رغم قلة أصحابه، دينًا للمعارضة أو النضال (في إطار الالتزام الإسلامي بالنصوص المُجدّدة بالاجتهاد).
رسالة الدين رسالةٌ واحدة، مُرتبطةٌ بسلسلةٍ واحدةٍ مترابطة. ولا يتحقق هدف الرسالة إلا بتحرير الإنسان من الأنانية والتأثر بالنزعات الشريرة، ومن عبادة الظواهر أو الأفراد من حوله. والتحرر من الأنانية يتحقق من خلال النضال الداخلي. وهذا التحرر مسألةٌ شخصيةٌ تخصنا، وإن كانت تتطلب جهدًا كبيرًا، ولذلك سمّاه النبي (ص) صلى "الجهاد الأكبر".
لكن عندما يتحرر الإنسان من عبادة الآلهة الدنيوية، وينبذ عبادة مَن حوله، أي عندما يتحرر من عبادة الناس والأصنام التي تستعبده وتضعفه، عندما يتحرر من عبودية الظالمين، يواجه مصالحهم، ويتصاعد الصراع.
وهنا نرى أن جهاد الأنبياء والأئمة والأوصياء جميعهم في ميدان واحد، بحيث يمكننا دراسة وضع كل منهم في إطار عام. ومن بين هذه النضالات، بل ذروة هذه التضحيات، استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء. استشهاد الإمام الحسين (ع) ليس حلقة منفصلة عن الحلقات الأخرى، بل ندرسه من خلال "تاريخ النضال الطويل" الذي أنتج استشهاده (ع). وقد أنتج استشهاد الإمام الحسين (ع) أيضًا استشهادات أخرى، لكن استشهاد الإمام الحسين (ع) نفسه يتصدرها.
ولذلك ورد في روايات الشيعة عن زيارته:
"السلام عليكم يا وارث آدم صفوة الله"، أي أنها تربط بين الإمام الحسين (ع) ونبي الله آدم.
"السلام عليكم يا وارث نوح نبي الله، السلام عليكم يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليكم يا وارث موسى كليم الله، السلام عليكم يا وارث عيسى روح الله، السلام عليكم يا وارث محمد حبيب الله"، ونحيي الإمام الحسين (ع) بنفس الطريقة.
تؤكد هذه الأحاديث على ارتباط النهضة الحسينية بالحركات التقدمية الأخرى لتحرير الإنسان من عبادة الآلهة الدنيوية، ودورها في تحمل أعباء التاريخ في الحروب الدائرة منذ القدم ضد الظالمين وخدمة المستضعفين في الأرض.
استمرت هذه الحروب، وفي خضمها سقط الشهداء واحدًا تلو الآخر على الأرض، حتى جاء دور الإمام الحسين (ع)، سيد الشهداء، الذي كان حلقة وصل مستمرة بالماضي. وإن كانت نهضته، نابعة من حركات الماضي، إلا أنها كانت بدورها أم الحركات، وفي هذه الأثناء فإن الإمام الحسين (ع) هو أبو الشهداء.