يعد الطب النووي من أكثر فروع الصناعة النووية الإيرانية حيوية وازدهارًا، وله دور محوري في الصحة العامة واقتصاد البلاد. وعلى خلاف التصور السائد، فإن الصناعة النووية لا تقتصر على مجال الطاقة، بل إن الطب يُعد أحد أهم ميادين تفعيل هذه الصناعة. وقد شهد هذا القطاع نموًا مذهلًا في العقدين الأخيرين، مما وضع إيران ضمن مصاف الدول المتقدمة في إنتاج الأدوية المشعة.
فبعد الثورة الإسلامية، لم تتطور فقط المراكز العلاجية كمًا ونوعًا، بل تم أيضًا إنتاج أنواع متعددة من الأدوية المشعة محليًا، حتى باتت إيران من الدول المصدّرة لها عالميًا.
ويسلط هذا التقرير الضوء على البُعد الاقتصادي للطب النووي.
نمو لافت في عدد مراكز الطب النووي
تشير الإحصاءات الرسمية إلى ارتفاع عدد مراكز الطب النووي في إيران من مركز واحد فقط عام 1989 إلى نحو 250 مركزًا بحلول عام 2024 . وأكد "محمد قنادي"، معاون التخطيط النووي في منظمة الطاقة الذرية، أن هذه المراكز منتشرة في جميع المحافظات الإيرانية الثلاثين، ويزداد عددها تدريجيًا، ما يعكس الاهتمام الرسمي الكبير بهذا القطاع الحيوي.
وبحسب مجلة "الطب النووي"، من بين 117 مركزًا تمت دراستها، 43.6% منها تابعة للقطاع الحكومي و56.4% للقطاع الخاص، كما أن 68.4% منها توجد داخل مستشفيات، في حين يعمل 31.6% كمراكز مستقلة. ويوجد حاليًا في البلاد 164 جهاز "غاما كاميرا"، 51.8% منها للقطاع الخاص و48.8% للحكومي.
وتبلغ نسبة مراكز الطب النووي إلى عدد السكان 1.36 مركز لكل مليون نسمة، و2.2 جهاز "غاما كاميرا" لكل مليون نسمة، وهي نسبة تُظهر توفرًا جيدًا نسبيًا للخدمات مقارنة بدول المنطقة، فضلًا عن أن القطاع الخاص يملك حصة كبيرة فيها، ما ينفي حصرها في القطاع الحكومي فقط.
إنتاج وتنوع الأدوية المشعة
من أبرز إنجازات إيران في هذا المجال هو الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأدوية المشعة، حيث يتم حاليًا إنتاج أكثر من 70 نوعًا محليًا تُوزّع على 230 مركزًا علاجيًا داخل البلاد. وقد ساهم مشروع "تترا" لتطويرها، الذي أُطلق في أواخر 2018، بشكل رئيسي في هذا النجاح، إذ أنشئ على مساحة 37 ألف متر مكعب بميزانية قدرها 63 مليون دولار وفقًا لمعايير GMP العالمية.
كما حققت إيران تقدمًا ملحوظًا في تصنيع مولدات الأدوية المشعة، حيث انتقل الإنتاج من 20-30 وحدة في ثمانينيات القرن الماضي إلى 360 وحدة حاليًا، ما يمثل نموًا يزيد عن 20 ضعفًا. وتُعد هذه المولدات من المنتجات الاستراتيجية التي لا تنتجها سوى خمس دول فقط حول العالم.
الأبعاد الاقتصادية والسوق العالمية
يشكل سوق الأدوية المشعة أحد أكثر قطاعات الصناعة الدوائية ربحية عالميًا. ووفقًا لتقارير دولية، بلغت قيمة هذا السوق في 2024 نحو 6.8 مليار دولار، ويتوقع أن ترتفع إلى 14.11 مليار دولار بحلول 2034 بمعدل نمو سنوي قدره 7.57%. وتشير تقارير أخرى إلى أن قيمة السوق سترتفع من 5.8 مليار دولار عام 2024 إلى 8.9 مليار دولار في 2033 بمعدل نمو 4.9%.
وتعد منطقة آسيا والمحيط الهادئ الأسرع نموًا في هذا السوق، ما يمثل فرصة ذهبية لإيران. وتحتل أمريكا الشمالية 43.95% من الحصة السوقية في 2024، إلا أن إيران، التي تُعد من بين أكبر ثلاث دول منتجة الأدوية المشعة عالميا، تمتلك حاليًا حصة تبلغ 12.5% من سوق المياه الثقيلة، ما يعكس تقدمها التكنولوجي النووي. وقد جنت صادراتها من الأدوية المشعية إلى 15 دولة نحو 70 مليون دولار خلال عام 2024.
التوظيف والموارد البشرية
يُعد قطاع الطب النووي محركًا مهمًا للتوظيف في إيران، حيث يوفر وظائف مباشرة لـ4500 متخصص، ومن المتوقع أن ينمو التوظيف بنسبة 12% حتى عام 2027. كما أن استثمارات بقيمة 200 مليون دولار في تطوير المفاعلات والسيكلوترونات تحقق عوائد تعادل 15 ضعفًا من خلال التصدير وتوفير النفقات الصحية محليًا.
ومن اللافت أن 40% من المتخصصين في هذا القطاع هم من النساء، ما يعكس دوره في تمكين المرأة اقتصاديًا وتوفير فرص متكافئة، خاصة في المجالات التكنولوجية المتقدمة التي لا تتيح دائمًا فرصًا كبيرة للنساء في دول أخرى.
الاكتفاء الذاتي وتوسيع الصادرات
قبل تنمية الإنتاج المحلي، كانت إيران تستورد الأدوية المشعة بتكاليف باهظة، أما اليوم فهي لا تكتفي ذاتيًا فحسب، بل تصدر هذه الأدوية أيضًا. ففي عام 2018، وضعت الولايات المتحدة صادرات هذه الأدوية المشعة إلى إيران ضمن العقوبات، لكن الصناعة المحلية تجاوزت هذا القيد. ورغم تأثير العقوبات على الوصول إلى المعدات والمواد الأولية، تمكّنت إيران من تحويل هذه التحديات إلى فرص استقلال.
واليوم، تصدّر إيران أدويتها المشعة إلى 15 دولة منها مصر، الهند، باكستان، العراق، لبنان، سوريا، وبعض الدول الأوروبية. ووفقًا لعلي أكبر صالحي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية، تُعد إيران رائدة في تطوير وإنتاج الأدوية المشعة في غرب آسيا.
وقد استؤنفت صادرات الأدوية المشعة الإيرانية في عام 2021 بعد توقف دام 40 عامًا، في مؤشر على عودة إيران إلى الأسواق العالمية. وصرّح محمد إسلامي بأن البلاد قادرة على تصدير هذه الأدوية إلى كافة أنحاء العالم نظرًا للإمكانات الإنتاجية المتوفرة.
في عام 2025، تمكنت إيران من إنتاج أدوية متطورة مثل رنيوم-188، غاليوم FAPI، ولوتيتيوم FAPI، ويُستخدم في علاج موضعي لسرطانات الجلد بنسبة شفاء تصل إلى 94%. وتضع هذه الإنجازات إيران ضمن الدول الرائدة في إنتاج الجيل الجديد من الأدوية المشعة، مع توفير احتياجات السوق المحلية وفتح آفاق تصديرية عالمية.
آفاق المستقبل
في ظل النمو المتوقع بنسبة 7.5% لسوق الأدوية المشعة عالميًا، تملك إيران فرصة ثمينة لتعزيز حصتها السوقية. ويتوقع أن يشهد الطلب على غاليوم FAPI نموًا بنسبة 25% في 2025، ما يفتح المجال لمزيد من الصادرات. ومع معامل ربحية يصل إلى 15 ضعفًا، يُعد الاستثمار في الطب النووي من بين الأكثر أمانًا وربحية في قطاع الصحة. فهذا القطاع، من إنتاج المواد الخام إلى تقديم العلاج، يلعب دورًا محوريًا في اقتصاد الرعاية الصحية الوطني.
إن الطب النووي في إيران اليوم لا يقتصر على تلبية احتياجات المجتمع الصحية، بل يشكل أيضًا رافدًا اقتصاديًا هامًا من حيث الدخل وفرص العمل وتقليص الاعتماد على النقد الأجنبي، ويبرز كواحد من الإنجازات التي تحققت رغم أشد العقوبات الدولية، ما يعكس مدى القوة العلمية والتقنية للبلاد في هذا القطاع الحساس.