في أيام عادت فيها مفاوضات الملف النووي إلى واجهة الأخبار، واشتدت وتيرة التحليلات المتباينة والمتناقضة أحياناً، عاد هذا السؤال البسيط لكن الجوهري إلى الواجهة:
ما هي التكنولوجيا النووية أساساً؟ ولماذا تصر إيران عليها؟ وهل تواجه مشروعاً مكلفاً بلا فائدة كما يعتقد البعض، أم أن الأمر أعمق وأكثر حيوية مما يبدو؟.
لقد قدم قائد الثورة الإسلامية سماحة الامام الخامنئي إجابة واضحة وموثقة ومستقبلية على هذا السؤال في كلماته التي ألقاها في مناسبات مختلفة على مر السنين. ففي لقائه مع طلاب جامعة يزد (13 ديسمبر 2007)، قال: «أثاروا ضجة داخل البلاد قائلين: الطاقة النووية مشروع مكلف بلا عائد، فلماذا تقومون به؟... أولاً قالوا: هذا مستحيل، لا نستطيع. ثم عندما رأوا أننا نجحنا، قالوا: هذا مشروع مكلف بلا فائدة... كيف لا فائدة منه؟ يجب أن نحصل على 20 ألف ميغاواط من الكهرباء من الطاقة النووية على الأقل خلال العشرين سنة المقبلة».
كلماته ليست دفاعاً عن مشروع تقني فحسب، بل هي توضيح لرؤية حضارية واقتصادية للبلاد: ضمان أمن الطاقة، الاعتماد على الذات، والانضمام إلى نادي النخبة العلمية العالمية.
حاجة إستراتيجية: 20 ألف ميغاواط من الكهرباء النووية
في نفس السياق، أكد سماحة قائد الثورة الاسلامية في يونيو 2023 خلال لقائه مع مسؤولي الصناعة النووية في إيران على هدف إنتاج 20 ألف ميغاواط من الطاقة النووية، قائلاً: «من إجمالي احتياجات البلاد من الكهرباء في المدى المتوسط والتي قد تصل إلى 80 أو 90 ألف ميغاواط، يجب أن يكون 20 ألف ميغاواط منها نووياً، لما فيه من فوائد مالية وبيئية... يجب متابعته بجدية ووفق خطة مدروسة».
بحسب الخبراء، وفي ظل تسجيل استهلاك الكهرباء في إيران أرقاماً قياسية سنوياً، واتجاه العالم نحو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لأسباب بيئية واقتصادية، فإن التحول إلى الطاقة النظيفة والمستدامة لم يعد خياراً بل ضرورة إستراتيجية. فالطاقة النووية بقدرتها على الإنتاج الضخم والمستقر يمكن أن تكون العمود الفقري لأمن الطاقة في إيران خلال العقود المقبلة.
أبعد من الكهرباء: التكنولوجيا النووية "تكنولوجيا أم"
لكن التكنولوجيا النووية لا تقتصر على إنتاج الكهرباء. فكما أوضح قائد الثورة، تطبيقاتها تمتد من الصناعات الكبرى إلى التكنولوجيا الحيوية والصحة:
«هذه الصناعة مهمة من ناحية تقدم البلاد وقدراتها في المجالات التقنية والاقتصادية والصحية، مما يمنح البلد هيبة ويحسن حياة الناس. كما أنها مهمة من ناحية الوزن السياسي العالمي والدولي للبلد... فالتقدم في هذا المجال يمنح البلد مكانة دولية ويعزز ثقة الشعب بنفسه... يجب الحفاظ على البنية التحتية النووية القائمة، فهي نتاج جهود سنوات طويلة».
تعكس تصريحات سماحة قائد الثورة الاسلامية حول مكانة الصناعة النووية وتطبيقاتها الواسعة إمكانيات حقيقية وموثوقة في إيران، تم إثبات بعضها عملياً في السنوات الأخيرة. فما ذكره حول تأثير هذه الصناعة في التقدم التقني ورفع المكانة الدولية وتعزيز الثقة الوطنية، تجسد في أداء المراكز المتخصصة والمشاريع التنفيذية في البلاد.
فعلى سبيل المثال، وفق تصنيف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تُستخدم التكنولوجيا النووية في ستة مجالات كبرى:
-الطاقة
-إدارة المياه
-الغذاء والزراعة
-التطبيقات الصناعية
-البيئة
-الصحة
ولكل منها استخدامات متعددة، وفي الواقع، ما يُعرف دولياً بـ "التكنولوجيا النووية" هو تكنولوجيا أم، فكل دولة تمتلكها تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي والنمو العلمي والتنمية الاقتصادية ورفاهية المجتمع. وهذا بالضبط ما حققته إيران في مجالات متعددة، مما أثار غضب الأعداء.
أمثلة واضحة: من علاج السرطان إلى تحلية المياه
تثبت نظرة على إنجازات إيران المحلية في الصناعة النوويةصحة هذا الادعاء:
-في مجال الصحة: إنتاج أكثر من 50 نوعاً من الأدوية المشعة لتشخيص وعلاج السرطان والأمراض المستعصية، وتصنيع مسحوق "هيموستات" لإيقاف النزيف خلال العمليات الجراحية، مما وضع إيران بين الدول الخمس المالكة لهذه التكنولوجيا.
-في إدارة المياه: بناء محطة تحلية مياه بسعة 70 ألف متر مكعب في محطة بوشهر النووية.
-في الصناعة والبيئة: معالجة مياه الصرف الصناعي بأنظمة "الإلكترون الإلكتروستاتيكي"، وتصميم أجهزة القياس الإشعاعي لمراقبة الجودة في الصناعات، واستخدام تكنولوجيا البلازما لمعالجة النفايات الطبية والصناعية.
-في النفط والبتروكيماويات والتعدين: تحقيق الاكتفاء الذاتي في دورة الوقود النووي، من استخراج "الكعكة الصفراء" إلى إدارة النفايات المشعة، بالإضافة إلى إنتاج مركبات "الدوتريوم" واكتشاف الموارد الطبيعية عبر الجيوفيزياء الجوية.
هل يمكن وقف هذا المسار؟
السؤال الرئيسي الآن:
هل يمكن التراجع عن هذا المسار؟ الجواب علمي وإستراتيجي: كلا.
فإيران لم تحقق فقط الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا النووية، بل حولتها إلى منصة للتقدم في العلوم متعددة التخصصات. إن وقف هذا المسار يعني التراجع عن المشروع العلمي الوطني، والعودة إلى عصر التبعية التكنولوجية، والتخلي عن مكانة إيران الحضارية في المنطقة والعالم.
التكنولوجيا النووية في قلب بناء الحضارة الإيرانية الحديثة
التكنولوجيا النووية ليست مجرد "مصدر فخر وطني لحظي"، بل هي جزء من هيكل الحضارة الإسلامية-الإيرانية الجديدة. فقد أكد سماحة قائد الثورة الاسلامية دوماً على أن "المعرفة المحلية" هي أساس الاستقلال الحقيقي.
وعندما تمكنت إيران - رغم العقوبات - من تطوير أكثر تكنولوجيا معقدة في القرن بواسطة علمائها الشباب، فهذا رسالة واضحة للعالم: ((نحن قادرون)).