لم تكن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة الرسول الأكرم (ص) تواجه حزن فراق أبيها الكريم فحسب، بل كانت تشعر بقلق بالغ أيضًا فيما يخص مصير الأمة الإسلامية.
كانت تعلم (س) جيداً أن والدها الكريم قد بنى مجتمعاً قائماً على الإيمان والعدالة والمحبة بوحي الله وبجهوده ليلاً ونهاراً، لكن مستقبل هذه الأسس النبيلة يواجه مخاطر كبيرة.
لقد شعرت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بالقلق من الانحراف عن طريق الإمامة والتخلي عن المبادئ والقيم الإسلامية الخالصة، لأن هذا الانحراف قد يقود الأمة الإسلامية إلى طريق الفرقة، انعدام العدالة والضعف.
إن هذه المخاوف من قبل السيدة الكريمة التي اختارها الله لتكون سيدة نساء العالمين واطلاعها على الغيب ومستقبل البشرية، كانت بمثابة تحذيرات دقيقة لمنع الأمة الإسلامية من الوقوع في فخ الخلافات والاستبداد والطغيان.
ومما يؤسف عليه، أظهر مرور الزمن أن اغتصاب الخلافة، ظهور الحكومات الاستبدادية، وخلق الفرقة بين الأمة، كانت من بين المعاناة التي فرضت على المجتمع الإسلامي.
وأدت هذه الانحرافات إلى ابتعاد الأمة عن موقعها القيادي ودخولها في مستوى الصراع الداخلي وإضعاف الأخلاق والقيم وسيطرة الأجانب.
وإذا أردنا أن نحصي أسباب قلق السيدة فاطمة الزهراء (س) من اغتصاب خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، فسوف تتشكل قائمة طويلة وشاملة، ولكن سيتم ذكر بعض أهم الأسباب في العناوين التالية:
* الفرقة والاختلاف بين الأمة
قد حذرت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من هذا الانقسام والشقاق في العديد من الخطب واعتبرت طريق الوحدة هو الالتقاء حول محور إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
وقالت (س) في تعبير: «إمامتنا نظاما للملّة وولايتنا أمانا للفرقة». أي أن إمامتنا هي سبب نظام الأمة وولايتنا هي سبب السلامة من الفرقة. وللأسف فإن من أهم نتائج الإعراض عن رسالة "غدير خم" خلق هذا الانقسام والشقاق بين الأمة الإسلامية.
* تحريف السنة النبوية
كان تحريف السنة النبوية والانحراف عن تعاليم النبي الأكرم (ص) واحدا من أهم المخاوف لدى السيدة فاطمة الزهراء (س). ورأت أن اغتصاب الخلافة والتخلي عن أمير المؤمنين عليه السلام لقد شكلا خطراً جسيماً على صحة السنة والتعاليم النبوية.
ومن أمثلة هذا التحريف يمكن الإشارة إلى إضعاف مكانة أهل البيت (ع) باعتبارهم المرجع الحقيقي للدين، تغيير طريقة تطبيق العدالة الاجتماعية، تجاهل المبادئ القرآنية في إدارة المجتمع، وتعزيز التفسيرات السطحية والمضللة للدين. ولم تتسبب هذه الانحرافات في ابتعاد الأمة عن طريق الهدى فحسب، بل وفرت الأساس لظهور البدع والخلافات العميقة في المجتمع الإسلامي.
* العودة إلى الجاهلية
إن العودة إلى الجاهلية كانت من أهم المخاوف لدى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، لأن تحريف السنة النبوية والانحراف عن تعاليم الإسلام الأصيلة كان يدفع المجتمع إلى إحياء قيم الجاهلية. وكان واضحا لسيدة نساء العالمين أن التخلي عن مبادئ العدالة، المساواة، والأخلاق الإسلامية سيؤدي إلى سيطرة الأنظمة الاستبدادية وعودة الأفكار القبلية.
ولم تتجلى هذه الانحرافات في المجالين السياسي والاجتماعي فحسب، بل تجلت أيضا في التوزيع غير العادل للموارد وخلق الفساد الاقتصادي، مما أدى إلى انتشار الفقر والحرمان بين الشرائح الأضعف في المجتمع. لقد تنبأت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بهذه العواقب عبر رؤية إلهية وللحيلولة دون انحراف كهذا أقدمت (س) على محاربته وتنوير الأمة.
*تحريف القرآن
جرت محاولات عديدة لتحريف القرآن بعد رحيل نبي الإسلام (ص)، ولكن في كل مرة كانت هذه المؤامرات يحبطها أمير المؤمنين عليه السلام وبعض أصحاب النبي. إلا أن حدوث اختلافات كثيرة في قراءة القرآن قد تسبب في خلق 7 قراءات مختلفة. ومن ثم أصبح هذا الأمر عاملا لتحريف القرآن بعد القرون التالية.
* ظهور الحكومات الاستبدادية
كان ظهور الحكومات الاستبدادية من نتائج اغتصاب الخلافة والانحراف عن طريق الإمامة. لقد أساء الحكام الطغاة مثل بني أمية وبني العباس إلى الإسلام وسيطروا على الناس وأضعفوا القيم الإسلامية الأصيلة. ومن خلال قمع المعارضة، والتمييز في توزيع الموارد، وتعزيز الترف والفساد، وفرت هذه الحكومات الأساس لابتعاد المجتمع عن تعاليم الإسلام الموجهة نحو العدالة، وقادت الأمة الإسلامية إلى الضعف والانقسام.
* المجازر والحروب الأهلية
ربما يمكن القول أن من أهم هموم السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هي رؤية مذبحة نسبها الطاهرين والفظائع التي لا تنتهي على أهل البيت عليهم السلام. وكانت تعلم بالوعي والبصيرة الإلهية أن الانحراف عن طريق الإمامة واغتصاب الخلافة سيؤدي إلى أحداث مريرة مثل نهضة عاشوراء والقمع الدموي ضد أتباع أهل البيت. ولم تؤد هذه الأحداث إلى إبادة آل النبي فحسب، بل جلبت العدالة والإنسانية إلى المذبح من خلال فرض المعاناة والظلم على الأمة الإسلامية.
* ظهور الجماعات المتطرفة والمنحرفة
كان ظهور تيارات مثل الخوارج والجماعات التكفيرية التي أظهرت صورة زائفة عن الإسلام أمام العالم من خلال أعمال العنف والتي حدثت بعد التجاهل والإعراض عن رسالة الرسول الأكرم (ص) في "غدير خم" .
* إضعاف مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي
إن الابتعاد عن المكانة التي حددها الإسلام الصحيح للمرأة أدى إلى تجاهل حقوقها ودورها الفعال في المجتمع وإضعاف كرامتها؛ ومنها العودة إلى العادات والتقاليد الجاهلية التي كانت موجودة قبل الإسلام فيما يتعلق بالمرأة، مثل إذلال المرأة وتفوق الرجل على المرأة، وطغيان واستبداد بعض الحكام، مما تسبب في انتشار الفساد وعدم تطور الفضائل الإنسانية، ومن ثم الإضرار بالنساء، انتشار الأفكار الرجولية في تفسير قضايا المرأة وتبرير الآيات والأحاديث والتقاليد، بحيث تفوح رائحة محاباة الرجل وإضعاف المرأة واستخدامها كأداة.
* الحروب الاستعمارية واحتلال الأراضي الإسلامية
تعرضت الدول الإسلامية على مر التاريخ، لهجمات واحتلال متكرر من قبل القوى الاستعمارية، مما أدى إلى نهب الموارد وفرض الفقر والتخلف.
* نسيان مبدأ الجهاد والمقاومة
وبدلاً من الوقوف ضد الظلم، اتجه بعض الأمة إلى التنازل أو الاستسلام، مما ساعد على إدامة ظلم الأجانب وسيطرتهم.
* الانحراف في تفسير القرآن والتعاليم الدينية
إن الفهم الخاطئ والسطحي للقرآن والأحاديث أدى إلى ظهور أفكار منحرفة ومتطرفة، وبهذه الطريقة سدت طريق نمو الأمة وتميزها.
* الاستخدام الآلي للدين من قبل الحكام
ومن خلال تشويه المفاهيم الدينية، حولت بعض الحكومات الإسلام إلى أداة لتبرير أفعالها. وبدأت هذه الحركة منذ البداية واستمرت حتى المستقبل.
* تعزيز الثقافة الأجنبية والبعد عن الهوية الإسلامية
أدى تأثير الثقافة الغربية والفلسفة اليونانية إلى إضعاف الهوية الإسلامية وجعل الأجيال الجديدة تنأى بنفسها عن ثقافة أهل البيت وقيمهم الدينية.
* التوسع في العلمانية وفصل الدين عن السياسة
قامت بعض المجتمعات الإسلامية، متأثرة بالغرب، بفصل الدين عن السياسة، مما أدى إلى إضعاف الإسلام كنظام شامل.
* معاناة الأقليات الإسلامية المضطهدة
إن ظهور الخلافات في الأمة وتغيير السنة النبوية والابتعاد عن تعاليم أهل الوحي المحيية والاستشهادية، جعل الأمة الإسلامية لا تملك سنداً قوياً لحل مشاكلها. والآن تعرض المسلمون في مناطق مختلفة من العالم، مثل فلسطين وميانمار وكشمير والسعودية وغيرها، للقمع ولم يتفاعل المجتمع الإسلامي بشكل كافٍ مع هذه القضية، بل انضم بعض الحكام العرب إلى جبهة الاستبداد ويقدمون لها الدعم المالي والعسكري.
هذا جزء من معاناة الأمة الإسلامية التي حدثت وما زالت مستمرة بعد الابتعاد عن بيت الوحي واغتصاب مكانة أهل البيت (عليهم السلام). وكانت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام على علم بجميع جوانب هذه المعاناة وكل ما سيحدث من سفك الدماء بفيكون بسبب إسراف بعض الطامعين.