ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "لَيْسَ لِنُفُوسِكُمْ ثَمَنٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ فَلا تَبيعُوها إِلاَّ بِها".
تتفاوت الأشياء التي يملكها المرء من حيث القيمة، فمنها ما تكون قيمته حقيرة، ومنها ما تكون قيمته عالية خطيرة، وكلما كَثُر الشيء وسَهُل الحصول عليه قلت قيمته، فإذا نَدَرَ وجوده وصعُبَ الحصول عليه ارتفعت قيمته، فالحديد رخيص القيمة قياساً إلى الفِضَّة لأن الحديد كثير والحصل عليه سهل، أما الفِضَّة فقليلة والحصول عليها صعب، والفِضَّة أقل قيمة من الذهب لنُدرته وصعوبة الحصول عليه.
إذا قيمة الأشياء يحدّدها أمران:
الأول: النُّدرة،
والثاني: الأهمية وزيادة الطلب.
وعليه: مِما لا شَكَّ فيه أن النفس أعلى الأشياء قيمة بالنسبة إلى الإنسان، ألا ترى قارئي الكريم أنه يبذل الغالي والنفيس من أجل المحافظة عليها؟! ألا ترى كيف يذود عنها كل خطر وضَرَر قلَّ أم كثُرَ ولو كان مُحتَمَلاً؟ بل إن كل ما يقتنيه وما يطمح إلى اقتنائه، وما يسعى إلى بلوغه من غايات، وكل نجاح يرغب به، وكل فشل يتجنَّبه، وكل مقام يسعى إليه، وكل ثراء يُمَنّي نفسه به، وكل راحة وسعادة يريدها، كل ذلك من أجل نفسه.
فنفسه هي أثمن وأغلى ما يملك، إنها واحدة لا مِثل لها أبداً، إن ذهبت لا يمكنه أن يعوضَّها بحال من الأحوال ولو بأدنى منها، وعليه فلا ثمن يوازيها في الدنيا، لا مال ولا جاه فكل ذلك يزول، بل كل ذلك يتنازل عنه من أجل نفسه، الثمن الوحيد الذي يوازيها هو الجنة لا غير.
والإنسان ما خلقه الله للدنيا، الدنيا مرحلة على طريقه إلى غاية أسمى وأعلى وأرقى، الدنيا زائلة منتهية ولو طال مكوث الإنسان فيها، وما خلقه الله ليكون من أهل النار، حاشاه تعالى أن يخلق الإنسان ليودي به في النار، حاشاه أن يخلقه ليُشقيه ويُعَذِّبه، الإنسان هو الذي يوقع نفسه في الشقاء والعذاب، وهو الذي يبيع نفسه بالنار، هو الذي يشتري نار الدنيا ونار الآخرة بلذة عابرة سريعاً ما تنقضي، وقد كان يمكنه أن ينالها من غير أن يكون الثمن شقاءً وناراً في دنياه وفي آخرته، كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَن باعَ نَفْسَهُ بغيرِ نَعيمِ الجَنّةِ فقد ظَلَمها"
وكذلك يقول (ع): "إنَّ مَن باعَ نَفْسَهُ بغيرِ الجَنّةِ فقد عَظُمَتْ علَيهِ المِحْنَةُ".
إن الله تعالى يقول: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿111/ التوبة﴾ الله أكبر، ما هذه العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وما هذا البيع الذي يحصل بينه وبينهم؟!
إن الله تعالى يستخلص لنفسه أنفُسَ المؤمنين وأموالهم ينفقونها في سبيله لا يستبقون منها شيئاً، هم البائعون، والله هو الشاري، يتصرَّف في أنفسهم وأموالهم كما يشاء، والثَّمن هو الجَنَّة، والطريق إليها هو الجهاد في سبيل الله، والنهاية هي النصر أو الشهادة، إن الله تعالى ارتضى المُثمَنَ، والمؤمنون ارتضَوا الثمن، والصفقة بينهم وبين الله لازمة لا إقالة منها، ولا رجعة فيها ولا خيار، والجنة ثمن مقبوض لا موعود، فمن وعد بها هو الله، ووعد الله متحقق بلا ريب، ومن أوفى بعهده من الله؟!
فما أربحها من صفقة وما أنماها من تجارة، لا يفوت منها شيء، وما الذي يفوت المؤمن الذي يبيع نفسه لله بثمن هو جَنَّة الخلود ومجاورة الله تعالى؟ واللهِ ما يفوته شيء، فالنفس إلى الموت باعها أم لم يبعها، فليبعها لله إذاً وليقبض الثَّمن مُعجَّلاً ومؤجَّلاً، والمال إلى فَوتٍ سواء أنفقه في طاعة الله أم في طاعة الشيطان، فلينفقه في طاعة الله وليقبض الثمن جنَّة عرضها السماوات والأرض، وحقيقة الأمر أن الجنة كسب بلا مقابل، المقابل لها وهو النفس والمال كلاهما زائل، فالجنَّة مكسب صافي، وما أعظم هذا المكسب.
السيد بلال وهبي