الجواب:
الحديثُ المُشار إليه في السؤال هو صحيحةُ إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا (عليه السلام): "إنَّ المحرَّم شهرٌ كان أهلُ الجاهلية يُحرِّمونَ فيه القتال، فاستُحلَّت فيه دماؤنا" إلى قوله (ع): "إنَّ يوم الحسينِ أقرحَ جفوننا، وأسبلَ دموعَنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء .."(1).
معنى قوله (ع): "وأذلَّ عزيزنا":
ومعنى قوله (ع): "وأذلَّ عزيزنا" هو أنَّه تمَّ الاستضعاف والاستهانة وإيقاع الإهانة والإذلال بعزيزنا، والمراد من العزيز في الرواية هم كلُّ فردٍ فرد من أبناء الرسول (ص) وبناته وسائر قرابته ممَّن كانوا مع الحسين (ع) في كربلاء، فكلُّ هؤلاء الكِرام قد تمَّ استضعافُهم والاستهانةُ بهم والإهانةُ لهم وذلك بمثل التنكيل والتمثيل بأجساد الشهداء منهم والأسرِ والسبي لمَن بقيَ منهم، ولذلك رُويَ أنَّ الإمام الحسين (ع) خاطبَهم يوم عاشوراء بقوله: "صَبْرًا يا بَني عُمُومَتي! صَبْرًا يا أَهْلَ بَيْتي! لا رَأَيْتُمْ هَوانًا بَعْدَ هذَا الْيَوْمِ أَبَدًا"(2).
لا ضير على المؤمن أنْ يُستهانَ به ويُستَضعَف:
ولا ضيرَ على المؤمن أنْ يُستهانَ به ويُستَضعَف أو يُهانَ ويُستهزَأَ به أو يُسخرَ منه وإنَّما الضيرُ على مَن يجترحُ في حقِّه هذه الجريرة الموبقة، وقد أخبرَ القرآنُ في مواضعَ عديدة أنَّ المستكبرين والطغاة كانوا يستضعفون أتباع الرُسل بل ويسخرون من الرسُل أنفسِهم ويستهزئون بهم بمثل رجمهم أو تهديدهم بالرجم وبمثل طردهم وإضحاك الناس عليهم وبمثل الافتراء عليهم واتِّهامهم في شرفِهم وبمثل التنكيل بهم والتمثيل بأجسادهم كما فَعلوا بنبيِّ الله يحيى (ع).
نماذج من إهانات العصاة للأنبياء (ع):
يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(3) وقال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾(4).
فكلٌّ من الآيتين تُخاطبُ النبيَّ الكريم (ص) وتحكي له ما كان ينالُ الرسُل الَّذين سبقوه مِن امتهانِ أقوامِهم لهم واستخفافِهم بهم والسخرية منهم، تُخاطبه بذلك لتُخفِّف عنه بعضَ ما يجدُه من أَلمِ الاستخفاف بدعوته والامتهان لشخصِه الكريم بمثل وضع الأشواك في طريقه، وإلقاء القذارات ومخلَّفات الذبائح على ظهرِه ورأسه أثناء سجوده، وإغراء الصبيان والسفهاء بشتمِه ورجمه بالحجارة والأقذار.
ويقولُ اللهُ تعالى يحكي ما وقع لنوحٍ (ع) مع قومه: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(5) فكانوا يتعاقبون السخرية به، ففوجٌ يمضي وآخرُ يأتي، يتحلَّقُّون حولَه كما يُفعَلُ بالمعتوه أو المجنون يتهكَّمون بما يفعلُ وبما يقول، يقصدون من ذلك تحقيره وتصغيره وامتهانه وإدخال الوهن والإذلال عليه، لذلك جاء الوعيدُ من الله تعالى في ذيل الآية أنَّ الخزي والذلَّ سوف يلحقُ بهم فيما بعد ويوم يقوم الناس للحساب.
كذلك كان حال سائر الأنبياء في أقوامهم، فإبراهيمُ (ع) شيخُ الأنبياء أخذوه وساقوه كما يُساق الجُناة استصغارًا لشأنه، وتحلَّقوا حوله يُقرِّعونه كما قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾(6) ثم صفَّدوه في الأغلال كما يُفعلُ بالمجرمين، وجمعوا الناس ينظرون إليه وهو على تلك الحال المُزرية ثم قذفوه في النار يبتغون من ذلك إراءة الناس له وهو يتقلبُ فيها، إمعانًا في إذلاله والاستهانة به كما قال تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ / فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾(7) فقد أرادوا من ذلك إذلاله فشاء اللهُ تعالى أن يكونوا هم الأسفلين.
وكذلك فعلَ بنو إسرائيل بالمسيح عيسى بن مريم (ع) فقذفوا أمَّه بالفجور ثم أخذوا رجلًا اعتقدوا أنَّه المسيح فجرَّدوه من ثيابه ووضعوا إكليل الشوك على رأسه إمعانًا في إذلاله ثم كلَّفوه قسْرًا بأنْ يحملَ خشبة الصلب على ظهره، وساقوه بها إلى موضع صلبه وكانوا كلَّما أدركَه الإعياء أو تعثَّرَ ضربوه، ثم جمعوا الناس حولَه وصلبوه على خشبته وهم يتضاحكون ويُسمِعونه أقذع السُباب وكلمات التقريع، يقول الله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا / وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(8).
وكذلك فعلوا بنبيِّ الله يحيى بن زكريا قتلوه استجابةً لرغبة بغيٍّ، وحملوا رأسه في طستٍ إليها، ولذلك كان الحسين (ع) يُكثرُ من ذكره كما رُوي ذلك عن الإمام عليِّ ن بن الحسين عليهما السلام قال: "خرجنا مع الحسين عليه السلام فمَا نزلَ منزلًا ولا ارتحل منه إلا ذكَرَ يحيى بن زكريا وقتله، وقال يومًا: ومِن هوانِ الدنيا على الله أنَّ رأسَ يحيى بن زكريا (عليه السلام) أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل"(9).
إذن فالاستضعافُ والامتهان والإذلال أمرٌ تعرَّض له الأنبياء والصالحون على امتداد تاريخ الرسالات، وذلك لا يُضيرُهم ولا يُنقِص من شأنِهم بل هو سرُّ رفعتِهم وعلوِّ قدرهم عند الله تعالى وعند الناس، والإذلال الذي يُنقِص من قدر الانسان هو الذي تعقُبه استجابةٌ لمقتضيات الإذلال، فحينما يُستذلُّ أحدٌ فيخنَع ويضرع ويستجيبُ ويستسلم لدواعي الإذلال فهذا هو الذليل، وأمَّا حينما يصبرُ على الأذى ويتجلَّد، ويرفض الخنوع والخضوع والاستجابة لدواعي الإذلال فهو العزيز بل يتصاغر مضطهدوه أمام عزَّته وشموخه رغم تظاهرِهم بالاستعلاء، ويشعرون بالصَغار في أنفسهم والانبهار من ثباته على موقفِه رغم قساوة ما أوقعوه عليه من وسائل الإخضاع.
شموخُ الحسين في مقابل سعي المعسكر الأموي لإخضاعه:
كذلك كان الإمام الحسينُ (ع)، فقد حشدَ له النظامُ الأموي جيشًا يُناهز تعدادُه الثلاثين ألفًا(10) فأحاطوا به وبأُسرته يرجون مِن ذلك إرغامه على الاستسلام والبيعة فصدح فيهم غير عابئ ولا مكترث: "ألا وإنَّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركزَ بين اثنتين بين السلَّة والذلَّة وهيهات منَّا الذلة، يأبى اللهُ ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابتْ وطهرتْ وأنوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيَّة من أنْ تُؤثر طاعةَ اللئام على مصارع الكِرام، ألا وإنِّي زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلَّة العدد وخذلة الناصر"(11).
فالمقصود من قول الإمام الرضا (ع): "وأذلَّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء" هو الإشارة إلى الهيئة المزرية التي حرص المعسكر الأموي أنْ يُظهِر عليها أهل البيت في كربلاء.
الشيخ محمد صنقور
-----------------------
1- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص190.
2- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص112، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص68.
3- سورة الأنبياء / 41.
4- سورة الرعد / 32.
5- سورة هود / 38.
6- سورة الصافات / 94.
7- سورة الصافات / 97-98.
8- سورة النساء / 156-157.
9- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص132، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص429.
10- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص177.
11- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص24، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص40. تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- مع اختلاف يسير ج14 / ص219، بغية الطلب في تاريخ حلب -ابن العديم- ص2588، التذكرة الحمدونيَّة -ابن حمدون- ج5 / ص212.