يشهد الواقع الدولي تحولات عميقة في بنيته العامة في اتجاه تغيير قواعد النظام الدولي، الذي تتأكّل الأسس التي قام عليها بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل عوامل ذاتية مرتبطة بنتائج سياسات العولمة التي انعكست سلباً على اقتصادات دوله وبناها الاجتماعية والاقتصادية، وترافُقْ ذلك مع صعود قوى آسيوية، على رأسها الصين، تقود المواجهة الناعمة والخشنة في مناطق متعددة مع النظام الغربي، على نحو يشكل أهم فرصة أمام الدول والشعوب للتخلص من الهيمنة الغربية الأقسى في تاريخ الإمبراطوريات والحضارات، إذا أحسنت استثمار هوامش المرحلة الانتقالية المتوسعة أمامها.
وبعد مئتي عام من مغادرة ما يُعَدّ مركز العالم القديم، المُمَثل بمنطقة غربي آسيا مع مصر، عن الفعل الحضاري والفعل الإمبراطوري من جرّاء انتقال السيطرة على العالم إلى النظام الغربي، تلوح في الأفق القادم معالم عودة الثقل الحضاري إلى العالم القديم من جديد، لكن بعيداً عن مركز العالم الذي ما زال تتخبط أغلبية قواه السياسية والدولتية بعيداً عن فعالية التأثير في التحولات العالمية، التي تتسارع بصورة واضحة بعد الحرب في أوكرانيا وفلسطين المحتلة.
ويشكل الحدث الزلزالي لمعركة "طوفان الأقصى" وما تلاها من مواجهات متعددة الساحات مؤشراً واضحاً على طبيعة الانقسام الحاد والمستمرّ بين الدول والقوى في منطقة غربي آسيا، على الرغم من العجز الواضح للنظام الغربي بصورة عامة، وللكيان الصهيوني بصورة خاصةً، في إمكان حسمهما المعارك المستمرة، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين لا تريدان بأي شكل هزيمة الكيان الصهيوني، بسبب اعتقادهما أن الهزيمة ستنعكس على الاستقرار داخل البلدين، أمنياً واقتصادياً، ولا تبتعد مصر عنهما كثيراً، من حيث المواقف الظاهرية والعملية على الرغم من حجم المكاسب الإيجابية الهائلة التي يمكنها أن تنعكس على مصر، عير استعادتها أهم موقع في الجغرافيا السياسية لغربي آسيا.
وليست تركيا بعيدة عن الموقف المصري الضعيف، وهي التي لم تستطع أن تحسم خياراتها بين الغرب والشرق، ولا استطاعت أن تخرج من إطارَي العلاقة بالكيان الصهيوني والعلاقة بحلف الناتو بعدُ. في المحصلة، فإن كل هذه الدول تقوم بدور المعرقل للتحولات الكبرى في المنطقة، على رغم انضمامها إلى منظمة "بريكس"، واتخاذ عدد من السياسات الاقتصادية، التي تنسجم مع التصورين الروسي والصيني للعالم.
قد تكون قوى المقاومة هي الوحيدة التي تشارك في هذه التحولات الكبرى من موقع الفاعل الكبير، في مساحة جغرافية واسعة تمتدّ من أوكرانيا إلى شرقي المتوسط إلى البحر الأحمر والخليج وإلى حدود الهند وباكستان، وأصبحت واقعياً رقماً صعباً في مركز العالم القديم، وثبّتت ركائز مشروعها المقاوم للنظام الغربي بصورة متكاملة مع القوى الآسيوية الناهضة، الأمر الذي حول الجماعات السكانية الكبيرة المُشكّلة لبيئة قوى المقاومة التي تقودها إلى قوى إقليمية لا يمكن تجاوزها بفضل ما راكمته من إنجازات، وخصوصاً بعد معركة "طوفان الأقصى".
قد تحمل الأعوام القريبة المقبلة فرصة لا تعوَّض لجميع القوى والدول في منطقة غربي آسيا، التي تضم مصر في جغرافيتها السياسية، في أن تحدد خياراتها تجاه مستقبل التعددية القطبية، التي أصبحت ملامحها واضحة نتيجة أسباب متعددة، يدركها جميعنا، وهي أمام مستويين من الفرص.
الأول أن يتم استثمار موقع جغرافيتها السياسية كمركز للعالم في الوصل بين القوى القطبية المتعددة، التي تتوزع بين أقصى الشرق وأقصى الغرب. فهي، عبر امتلاكها الممرات البحرية والبرية، قادرة على أن تؤدّي دوراً متوازناً بين كل هذه القوى بعد تغيير قواعد النظام الدولي، وتستطيع أن تمارس هذا الدور بتوافر عوامل معززة للجغرافيا السياسية، مثل الكتلة السكانية الكبيرة جداً، وموارد النفط والغاز والطاقة الشمسية، والإرث الحضاري المشترك الذي يمكن أن يساهم في إحداث نهضة جديدة، علمياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
المستوى الثاني من الفرص يتعلق بإمكان التحول إلى قطب من الأقطاب الدولية المتعددة، لتتحول منطقة غربي آسيا من أهمية الجغرافيا السياسية إلى منطقة الفاعل في السياسات العالمية، وهذا الأمر مرتبط بالتحول من التنافر بين قوى المنطقة إلى موقع التكامل الإقليمي، والانطلاق نحو بناء نظام إقليمي جديد يمكِّنه من الوصول إلى حالة الكونفيدرالية، وإعادة شعوب المنطقة إلى السياق التاريخي الحضاري التفاعلي الطبيعي، وهو أمر ممكن، إذا حسمت دول المنطقة وشعوبها خياراتها وإراداتها، وهذا أمر يمكن كما حدث بعد إعلان النيجر ومالي وبوركينا فاسو مشروعها الكونفيدرالي، والذي يمكنه النجاح تحت مظلة مواجهة الهيمنة الغربية والتخلص منها.
في ظل المخاوف الحاكمة لقوى المنطقة، وهذا ما كان واضحا في تباين المواقف تجاه الكيان الصهيوني، بين المواجه له والخائف من هزيمة الكيان، فإن قوى المقاومة يمكنها أن تؤدي دوراً كبيراً في تغيير سياسات القوى المؤيدة للكيان الصهيوني، وهي المرشحة كي تكون الأكثر نجاحاً في الدفع نحو الاصطفاف في نظام إقليمي جديد لا يهاب النظام الغربي متعدد القوى، وهي الآن تمتلك دوراً إقليمياً لا مثيل له في تاريخ المنطقة، للمرة الأولى منذ قرنين من الزمان، وتحولت فيه إيران إلى قوة إقليمية عظمى عبر تبنيها الكامل وغير المشروط للقضية الفلسطينية، وهو دور لا يمكن لأي من القوى العظمى والقوى الإقليمية أن تتجاوزه. وهي مع شركائها يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في استقطاب سائر القوى والدول نحو شراكة إقليمية، وفقاً لمعادلة رابح - رابح.
في المجمل، فإن هذه المنطقة من العالم أصبحت في مكان آخر بعد السابع من أكتوبر الماضي، ستتحدد ملامحها في اليوم التالي لوقف إطلاق النار والإقرار بهزيمة النظام الغربي، وهذا ما كان ليحدث لولا تراكم الفعل المقاوم منذ عام 1979 حتى الآن. وهذا يلقي ظلال المسؤولية على هذه القوى، وكيف ستتعاطى مع دورها المقبل في صياغة نظام إقليمي جديد يستطيع الوصول إلى حالة التكامل الإقليمي في الحد الأدنى، أو إلى حالة القطبية الدولية في مشروع استراتيجي بعيد المدى، يتطلب نهضة حقيقية في كل المجالات.
احمد الدرزي - موقع الميادين