بالنسبة لبايدن، الأمر لا يحتاج إلى فحص دم، فمشاركته المباشرة بحرب غزة، ومدّه للاحتلال بالذخائر اللازمة، أكبر دليل على "إخلاصه". في حين أن عهد ترامب، خير شاهد على العناية الخاصة التي أولاها لـ"إسرائيل"، وخروجه عن ثوابت السياسة الخارجية الأميركية المعتادة، كاعترافه بـ "سيادة" الاحتلال على الجولان السوري المحتل.
بايدن بين اجتياح لبنان 82 والإبادة الجماعية في غزة
في الواقع، لا ينبغي أن يشكّل "التزام" بايدن بتكرار دعمه المستمر للتحالف الأميركي الإسرائيلي مفاجأة لأي شخص تابع مسيرته المهنية منذ عام 1973 كسيناتور أولاً، ثم نائب رئيس، وصولاً إلى جلوسه على كرسي الرئاسة في العام 2020.
لفهم سبب إصرار بايدن على تقديم الدعم المفتوح وغير المسبوق لـ"إسرائيل" في حربها الدموية على غزة والفلسطينيين، علينا العودة إلى الوراء نحو نصف قرن من الزمن. فخلال تلك الفترة عقد لقاءات مهمة مع قيادات إسرائيلية بارزة استشهد بها مراراً، وفي مقدمتها اجتماعه عام 1973 مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها غولدا مئير، التي تأثّر بها (بحسب أقواله) وخرج مقتنعاً، بأن "إسرائيل ستبقى ملجأً حيوياً لليهود في جميع أنحاء العالم"، بحسب قوله.
والأهم أن شغفه بسفك دماء المدنيين الأبرياء، لم يبدأ من سوريا أو العراق أو غزة خصوصاً، بل يرجع إلى العام 1982، ولقائه بخلف غولدا مئير، مناحيم بيغن، الذي كان يقوم بزيارة رسمية إلى واشنطن بعد أيام من غزو "إسرائيل" للبنان. إذ تنقل صحيفة "يديعوت أحرونوت" آنذاك، أنه عندما خاطب بيغن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، "لم يكن أحد أكثر حماساً من بايدن لدعم الهجوم الإسرائيلي على لبنان" بسبب هجمات المقاومة الفلسطينية حينها على الكيان.
الأسوأ، أن بايدن لم يكتفِ بذلك، بل توجّه للمجتمعين (بحسب موقع مجلة جاكوبين) بالقول "لو تمّ شنّ هجمات من كندا على أميركا، لكان الجميع هنا سيقولون: هاجموا جميع مدن كندا، ولا يهمّنا إذا قُتل جميع المدنيين".
حتى أن بيغن نفسه أعرب في وقت لاحق عن دهشته من الدعم الشديد الذي أظهره بايدن، ولا سيما محاولات السيناتور تبرير قتل النساء والأطفال. وقال بيغن للصحافيين الإسرائيليين: "لقد نأيتُ بنفسي عن هذه التصريحات فقلت له: لا يا سيدي، يجب الانتباه. وفقاً لقيمنا، يحظر إيذاء النساء والأطفال، حتى في الحرب"، على حد زعمه.
وأشار بيغن إلى أنه في الاجتماع نفسه الذي عرض فيه بايدن دعمه لغزو لبنان، حذره الأخير، من أن بناء المستوطنات يكلّف وقف دعم بلاده، بل وهدّد بقطع المساعدة المالية الأميركية. والكلام هنا يعود لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية. لكن لم يحدث ذلك، وبعد 4 سنوات أخبر بايدن مجلس الشيوخ، أن الوقت قد حان لكي يتوقّف مؤيّدو "إسرائيل" عن الاعتذار عن إرسال مليارات الدولارات سنوياً إليها.
أيضاً كان بايدن (ولا يزال) يوصف بـ "الصديق الحقيقي لإسرائيل"، ذلك النوع من الأصدقاء الذين يحرصون على تجنيب "تل أبيب" أي عمل متهور من شأنه أن يرتد سلباً عليها، فضلاً عن مطالبته لها بالنظر إلى ما وراء اللحظات الحرجة "لبقائها سالمة مدى الحياة". فهذا التعلّق بـ"إسرائيل" مستمد جزئياً (كما يدّعي) من فهم والده لما يسمّى "المحرقة النازية" في حقبة الحرب العالمية الثانية.
إلى جانب ذلك، وبالرغم من أن هناك تقليداً عريقاً يحكم "العلاقة الخاصة" بين واشنطن و"إسرائيل"، فقد ذهب بايدن إلى حيث لم يذهب أي رئيس أميركي آخر على الإطلاق، خلال حرب غزة، ليس فقط جسدياً، ولكن أيضاً سياسياً واستراتيجياً؛ فلحظة وقوع ملحمة "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أعرب بايدن عن تضامنه "عاطفياً مع إسرائيل" وأكد حاجتها إلى "محاربة النار بالنار". لذلك عمد إلى تسريع المساعدات العسكرية لـ "جيش" الاحتلال. وسارع بالطيران إلى "تل أبيب" والجلوس إلى طاولة الاجتماعات، وكأنه عضو من حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحربية.
كما نحّى بايدن جانباً، الاعتبارات الاستراتيجية والسياسية التي وجّهت ردود فعل القادة الأميركيين السابقين على حروب "إسرائيل"، وانضم إلى نتنياهو سياسياً، وردّد الرواية الإسرائيلية بشكل حرفي، وكتب للاحتلال شيكاً على بياض، وأعطاه الضوء الأخضر لشنّ إبادة على الشعب الفلسطيني بذريعة القضاء على حماس.
وعلى عكس ترامب ومستشاريه السابقين المرتبطين بشكل وثيق بنتنياهو واليمين المتطرف، كان بايدن (والديمقراطيون على نطاق أوسع) تجمعهم علاقة تحالف متينة مع القيادات الإسرائيلية من العلمانيين ويسار الوسط.
وكمكافأة له على إخلاصه الأعمى لـ"إسرائيل"، حظي بايدن منذ فترة طويلة بدعم الداعمين والمانحين الأميركيين لـ"إسرائيل". ووفقاً لرويترز، نقلاً عن بيانات من شركة Open Secrets، خلال 36 عاماً قضاها في مجلس الشيوخ (1973-2009)، كان بايدن المتلقّي الأول للتبرّعات من الجماعات المؤيّدة لـ "إسرائيل".
بايدن والعلاقة مع نتنياهو
لطالما افتخر بايدن بقدرته على إدارة نتنياهو بالجزرة أكثر من العصا. ويعرف بايدن ونتنياهو بعضهما البعض، منذ أن كان بايدن عضواً شاباً في مجلس الشيوخ، ونتنياهو مسؤولاً "كبيراً" في سفارة "إسرائيل" في واشنطن. ومع ذلك تعرّضت علاقتهما لاهتزازات دائمة، تخللتها خلافات عميقة في فترات متباعدة، حول بناء "إسرائيل" للمستوطنات في الضفة الغربية أثناء إدارة باراك أوباما، عندما كان بايدن نائباً للرئيس. وفي وقت لاحق، عارض نتنياهو بشدة، مساعي بايدن لإحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرمه أوباما، ثم ألغاه ترامب.
ومع شروع الاحتلال الإسرائيلي بالمذبحة في غزة، سارع بايدن إلى احتضان نتنياهو، وتصدّى على الدوام لفكرة وقف إطلاق النار وإنهاء حفلة القتل الجماعي. وضرب بعرض الحائط كلّ الدعوات لوقف شحنات السلاح إلى "إسرائيل" وحرص على استمرارها لغاية الآن، متجاهلاً الثورة المتصاعدة التي يواجهها في الداخل، وخصوصاً في الجامعات، ووصل إلى حد تأكيد دعمه لـ"إسرائيل" في إحدى المرات ووصف نفسه بأنه "صهيوني".
ترامب والعلاقة مع "إسرائيل"
بالمقابل، بذل ترامب قصارى جهده لتعزيز علاقته بنتنياهو والجناح المتطرف والأحزاب اليمينية الأكثر تطرّفاً ودمويةً في "إسرائيل". لذا ومن أجل استرضاء الصهاينة المسيحيين، الذين يشكّلون جزءاً كبيراً من قاعدته الانتخابية، ارتدى عباءة الصهيونية المتطرفة. ولهذا عينّ خلال فترة إدارته، صهره جاريد كوشنير "قيصر" الشرق الأوسط.
ما تجدر معرفته هنا، أن كوشنير يرتبط بعلاقات قديمة مع نتنياهو، الذي كان ينام في غرفة نومه عندما كان كوشنير صغيراً. (أي أن كوشنير أعار نتنياهو سريره ذات مرة وفقاً لصحيفة جيروزاليم بوست).
ومن المفارقات العجيبة، أنه بينما يركّز المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين في الجامعات غضبهم على بايدن، قد يجدون أنفسهم، مهدّدين بالترحيل من قبل ترامب، إذا كتب له الفوز بولاية ثانية، حيث كان صرّح قائلاً: "أي طالب يحتجّ، سأطرده من البلاد".
وليس بعيداً عن ذلك، أبدى الحزب الجمهوري بقيادة ترامب معارضته، لسنوات طويلة، حلّ الدولتين. وقال: "نحن نرفض الفكرة الخاطئة بأن إسرائيل محتلة"، وبذلك تماهى بموقفه، مع وجهات نظر اليمين المتطرف في "إسرائيل"، الذي يعتبر أن الضفة الغربية المحتلة – التي يشيرون إليها باسم "يهودا والسامرة" – "تنتمي إلى إسرائيل وحدها"، استناداً لروايات توراتية قديمة.
ليس هذا فحسب، منح ترامب أثناء رئاسته، المحامي العقاري جيسون غرينبلات، منصباً كبيراً في البيت الأبيض. وهو الشخص الذي كتبت عنه صحيفة "ذي فوروارد" قائلة: "إذا فاز دونالد ترامب، سيكون على الأرجح أول رئيس أميركي اعتاد كبير مستشاريه لشؤون إسرائيل القيام بواجب الحراسة في مستوطنة يهودية في الضفة الغربية مسلحاً ببندقية هجومية من طراز M-16".
وعدا عن قراراته العديدة لصالح "إسرائيل"، كصفقة القرن، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بـ "سيادة إسرائيل" على الجولان والخروج من الاتفاق النووي مع إيران، ووقف تمويل و"كالة الأونروا"، فلدى ترامب وعائلته نظرة استعمارية للمنطقة.
ففي خضمّ الحرب على غزة اقترح كوشنير طرد سكانها الفلسطينيين وبناء منتجع ساحلي هناك. وقال: "ممتلكات غزة على الواجهة البحرية يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة". وأضاف "سأبذل قصارى جهدي لنقل الناس ثم تنظيفها".
في المحصّلة، بينما يرفض بايدن حتى الآن كبح جماح وحشية "إسرائيل" في غزة. فإن إعادة انتخاب ترامب، ستدفعه إلى تجديد دعمه غير المشروط للتوسّع الإسرائيلي، الذي لن يقتصر على ضم الضفة الغربية، وإعادة توطين المستوطنين في غزة (كما يحلمون)، إنما سيطلق العنان لـ"إسرائيل" للدخول بصراع إقليمي أخطر، ضد إيران وحلفائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومن الممكن أن تحدُث مثل هذه الحرب الكارثية الأوسع نطاقاً على أي حال، خصوصاً إذا قرّر نتنياهو أن الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها البقاء سياسياً هي فتح جبهة شرقية كبرى جديدة.
الميادين/ علي دربج - أستاذ جامعي