وقد أفرزت هذه الانتخابات نتائج صنعت تحولاً عميقاً في المشهد السياسي في جنوب أفريقيا، فقد بموجبها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مكانته التاريخية في ريادة الحياة السياسية، إذ ظل يشكل الأجندة الوطنية في جنوب أفريقيا على مدى 3 عقود تمثل حقبة الاستقلال والتحرر والحكم الوطني.
في المقابل، أبرزت هذه النتائج مشهداً برلمانياً شديد التعقيد، طرح تساؤلات كبرى تتصل بتأثير هذه النتائج في قدرة الحركة السياسية على المحافظة على الثوابت الوطنية المتمثلة في الحرية والاستقلال الوطني والعدالة، وقدرتها على مخاطبة استحقاقات الحكم وتطلعات الشعب.
في هذه الانتخابات، تراجعت نسبة الإقبال على التصويت بنحو 7% عما كانت عليه في الدورة السادسة عام 2019، إذ بلغت في انتخابات هذا العام 58.5%. وقد حصل حزب المؤتمر الأفريقي على 40% فاقداً 17.5% من مقاعده، الأمر الذي يحرمه من تشكيل حكومة منفرداً، كما يحرمه من تحقيق رغبته في الإبقاء على الرئيس سيريل رامافوسا في كرسي الرئاسة لولاية ثانية من دون تحالفات سياسية وبرلمانية.
في المقابل، عززت نتائج الانتخابات مكانة حزب التحالف الديمقراطي، الذي جاء في المرتبة الثانية بعدما حصد 21.2% من مقاعد البرلمان، ويعتبر هذا الحزب حزباً ليبرالياً غربي التوجه، تتشكل قيادته وقاعدته من البيض. وفد أبرزت النتائج ذاتها أحزاباً أخرى في المشهد البرلماني، أهمها:
- حزب "أومكونتو وي سيزوي" أو "رمح الأمة" الذي حصل على 14.7% من المقاعد، وهو حزب شكله حديثاً الرئيس السابق لجنوب أفريقيا جاكوب زوما الذي انشق عن المؤتمر الأفريقي، واختار له هذا الاسم الذي كان اسماً خاصاً بالجناح العسكري لحزب المؤتمر الأفريقي إبان فترة الكفاح ضد نظام الفصل العنصري الذي حكم البلاد بين 1948 و1994.
- حزب "المقاتلين من أجل الحرية الاقتصادية" اليساري الذي حصل على 9.5% من المقاعد، والذي يترأسه جوليوس ماليما. وقد تأسس عام 2013.
فرضت هذه النتائج على الأحزاب السياسية التوافق بينها، تمهيداً لانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة، في ظل معطى دستوري يلزم بالفراغ من ذلك في غضون 14 يوماً من إعلان النتائج النهائية الرسمية للانتخابات، إذ يتطلب انتخاب الرئيس توفر أغلبية مطلقة، وهو الذي لا يتوفر لأي حزب في ظل تلك النتائج.
في إثر ذلك، دعا سيريل رامافوسا، رئيس جنوب أفريقيا، الأحزاب السياسية في البلاد إلى العمل معاً من أجل مصلحة البلاد، وفتح بهذه الدعوة المجال أمام التحالفات السياسية التي تكتنفها صعوبات تتصل بالتباينات الأيديولوجية القائمة بينها، ويتصل بعضها بالتناقض في المواقف السياسية.
في ما يشبة الاستجابة لدعوة رامافوسا، أبدى حزب "التحالف الديمقراطي" استعداده لعقد ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وخوض مناقشات داخلية مع أحزاب أخرى خلال الأيام القادمة من أجل تشكيل حكومة مستقرة وقادرة على الحكم، إلا أن أصواتاً لقيادات داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تعارض بشدة أيّ محاولة للتحالف مع حزب "التحالف الديمقراطي"، بدعوى أنه مناصر وداعم للبيض في توجهاتهم السياسية والاقتصادية المعارضة لسياسات حزبهم، ويظهر ذلك انقساماً داخل هذا الحزب حول الائتلاف مع حزب التحالف الديمقراطي، لأنه لا يحظى بقبول لدى الأغلبية السوداء من السكان، باعتباره يمثل رمزاً لحقبة الفصل العنصري التي لا تزال حاضرة في الذاكرة الشعبية.
لذلك، سيؤثر الائتلاف بين المؤتمر الأفريقي والتحالف الديمقراطي في تماسك الأول، وفي قدرته على تبني خطابه السياسي المتصل بالقضايا الداخلية، وسيؤثر في سياساته الخارجية التي جعلت جنوب أفريقيا فاعلة ضمن الجهود الدولية الهادفة إلى تشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وأبرزتها كمناصرة لقضايا الحرية والعدالة الدولية، وبشكل خاص قضية فلسطين.
أمام المؤتمر الوطني الأفريقي فرص أخرى لتشكيل ائتلافات تبقيه في السلطة، من بينها الائتلاف مع الأحزاب الصغيرة التي سبق أن شكل معها حكومته الأولى عام 1994، والتي أطلق عليها مسمى حكومة الوحدة الوطنية، بيد أن هذا الخيار يصنع حكومة هشة قد لا تقوى على النهوض بمتطلبات السياسة والحكم.
ثمة خيارات ائتلافية أخرى تتوفر للمؤتمر الأفريقي، من بينها التحالف مع حزب "أومكونتو وي سيزوي" (رمح الأمة) الذي يجمعه مع المؤتمر الأفريقي تاريخ مشترك وأيديولوجيا واحدة، لكن ثمة عقبات قد تحول دون هذا الخيار، من بينها الموقف السلبي الحاد لرئيس هذا الحزب جاكوب زوما من حزبه السابق المؤتمر الأفريقي ومن رئيسه سيريل رامافوسا، فضلاً عن الرأي العام السلبي داخل أروقة المؤتمر الأفريقي تجاه خيار الائتلاف مع "رمح الأمة"، لكونه فصيلاً منشقاً عنه. وقد تسبب بهذا الانشقاق في إفقاد الأول الأغلبية التي تمكنه من الاستمرار في ريادة المشهد الجنوب أفريقي.
لقد مثلت نتائج الانتخابات في جنوب أفريقيا نقطة تحول للمؤتمر الوطني الأفريقي، وشكلت نقطة تحول في حاضر دولة جنوب أفريقيا ومستقبلها، وأصابت الحياة السياسية بالجمود الذي قد تعقبه نُذر الفوضى "غير الخلاقة"، الأمر الذي يدعو الأحزاب السياسية إلى تغليب المصلحة الوطنية على ما دونها من المصالح، وأن تعتبر من عبر تجارب الفوضى التي ضربت دولاً في الفضاءين الأفريقي والآسيوي.
الميادين ـ محمد حسب الرسول