على الصعيد الداخلي، اعتبر دخول حزب غانتس في حكومة نتنياهو ومشاركته في مجلس الحرب كعضو مقرر عاملاً مساعداً كي تحظى حكومة نتنياهو بالدعم الداخلي، وكي يلتف الجمهور الإسرائيلي خلف قرار الحرب ويتحمل تبعاتها.
شكل غانتس نوعاً من الغطاء والحماية من سهام النقد اللاذع الذي تعرض له نتنياهو في أعقاب ملحمة "طوفان الأقصى"، بذريعة التركيز على "إنقاذ إسرائيل" من التهديد الوجودي الذي تتعرض له في أعقاب الفشل المدوي في السابع من أكتوبر، وتأجيل حساب من يتحمل مسؤولية الإخفاق لما بعد الحرب، بمن فيهم نتنياهو، ما رفع رصيد غانتس شعبياً لتغليبه المصلحة العامة على الاعتبارات السياسية والشخصية، بحسب رأي الجمهور الإسرائيلي الذي رأى فيه حينها المخلص والمنقذ باعتبار خلفيته العسكرية، إلى جانب تعاليه على الجراح وانضمامه إلى حكومة يرأسها نتنياهو.
ولكن نتنياهو الذي لا يكفّ عن المراوغة لم يترك فرصة من دون أن يستغلها لتهميش غانتس وتقزيمه، حتى تراجعت شعبيته الداخلية، وهو ما أبرزته مختلف استطلاعات الرأي العام مؤخراً. كما تحسنت شعبية نتنياهو، ما يعني أن الأخير عَصَرَ غانتس كما تعصر حبة الليمون، ثم ألقى به في سلة المهملات، ما يفسر عدم استجابته لشروطه للبقاء في الحكومة، حتى إنه لم يضع له سلماً للنزول، ووجد غانتس نفسه في موقف لا يساعد في "إنقاذ إسرائيل" فحسب، بل يساهم في إنقاذ نتنياهو وحساباته الخاصة، بصرف النظر عن الحسابات المهنية والاستراتيجية.
على الرغم من الاعتبارات السياسية والشخصية التي دفعت غانتس إلى الاستقالة، وعلى الرغم من نجاح نتنياهو في إضعافه وصعود تدريجياً على حسابه، وتمتعه وحكومة اليمين المتطرفة بأغلبية المقاعد التي تؤمن الاستقرار الحكومي على الأقل نظرياً، فإنَّ حساباته ومصيره لن يحددها استقالة غانتس أو بقاؤه، إنما ما سيحدد مستقبل نتنياهو وحكومته، بل ومستقبل "إسرائيل" برمتها، الأثر الاستراتيجي للحرب الدائرة ونتائجها وتفاعلاتها.
كما أن استقالة غانتس تعكس غياب مفهوم الوحدة الداخلية أثناء الحرب، بعدما كانت "إسرائيل" تتمتع بها في حروبها السابقة، وتغليب المصلحة الحزبية والشخصية على الاعتبارات القومية، فالرجل تعهد ببقائه في الحكومة ما استمرت الحرب، وهو الآن يقفز منها خشية على نفسه ولعى حظوظه الانتخابية، فيما لا يظهر خصمه نتنياهو حرصاً حقيقياً على بقائه، ما يعتبر الانعكاس الأبرز لاستقالة غانتس التي ستظهر بشكل أوسع في الداخل الإسرائيلي في المرحلة القادمة.
إن استقالة غانتس ستعيد جمع قوى المعارضة وتوحيدها على هدف واحد، هو إسقاط نتنياهو وتقريب موعد الانتخابات العامة، ما سيفتح الباب مجدداً لاندلاع تظاهرات أكثر صخباً في ضوء تصاعد الاحتجاجات الأسبوعية لعائلات الأسرى لدى المقاومة في غزة، والتعثر في مسار المفاوضات بسبب حرص نتنياهو على تماسك حكومته اليمينية المتطرفة، كما سيسعى غانتس إلى جانب ليبرمان للعمل على خروج يوآف غالانت، وزير الأمن من حزب الليكود، من حكومة نتنياهو وانضمامه مع أعضاء آخرين إلى صفوف المعارضة، ولا سيما أن غالانت عارض قانون التجنيد الذي طرح للتصويت أمس.
وفي حال نجحت المعارضة في استمالة غالانت إلى صفوفها، ونجح الأخير في ضمّ أعضاء من حزب الليكود إليه، فإن مرحلة تفكك حزب الليكود ستبدأ. وعلى الرغم من السيطرة الحالية لنتنياهو على حزبه، فإن سيناريوهات تصدع الحزب ستبقى حاضرة في ضوء صعوبة جسر الهوة مع وزير أمنه غالانت.
على الصعيد الخارجي، ستزداد العزلة الدولية لحكومة نتنياهو، فالمجتمع الدولي لا يتعامل مع الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وحزبيهما المتطرفين، ويكاد لا يتعامل مع نتنياهو بعد احتمال توجيه اتهام إليه كمجرم حرب من محكمة الجنايات الدولية، ورفضه الانصياع إلى أوامر محكة العدل الدولية بخصوص وقف العمليات العسكرية في رفح، وفي أعقاب إدراج "إسرائيل" في لائحة العار للدول التي تعتدي على الأطفال أثناء النزاعات.
كان قادة الدول الأوروبية يجدون في غانتس الصوت الأكثر عقلانية، كما راهنت عليه الإدارة الأميركية في تمرير توجهاتها، ما سيزيد حالة التوتر بين نتنياهو والرئيس الأميركى جو بايدن، الذي بات يخشى تراجع حظوظه الانتخابية نتيجة سياسته تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا سيما في الولايات الأميركية المتأرجحة انتخابياً.
عكست استقالة غانتس عمق الشرخ الداخلي الإسرائيلي. ومن المؤكد أن المجتمع الإسرائيلي، الذي أخفق في التوحد خلال حرب يصفها بالمصيرية، سيجد نفسه ممزقاً بعد الحرب التي سينفلت بعدها الجميع من عقاله، وستشهد الساحة الإسرائيلية مزيداً من التصدعات. ولأن نتنياهو وأقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف لن يفرطوا في حكم اليمين، مهما كلفهم من ثمن، ولأنهم يدركون مآلات الحرب في ما لو انتهت من دون نصر حاسم، فإن طريق نتنياهو لإنقاذ نفسه في المقام الأول، وإنقاذ حكومته اليمينية، هي الحرب على كل من يقف أمامه من الداخل أو الخارج وبأي ثمن.
الميادين/وسام أبو شمالة