البث المباشر

لماذا كان الحج إبراهيمياً؟

الثلاثاء 28 مايو 2024 - 09:47 بتوقيت طهران
لماذا كان الحج إبراهيمياً؟

لماذا كان نبي الله إبراهيم(ع) من يرفع القواعد من البيت وإسماعيل إبنه ؟. ولماذا أتى الله تعالى به الى تلك البقعة الشريفة قبل ذلك ؟. ولماذا ارتبطت مناسك الحج بالأحداث التي حصلت معه ومع أهله ؟.

للجواب على هذه الأسئلة، لا بد من الإلفات الى أهم ما يتميز به نبي الله إبراهيم(ع) من جهة، والى حقيقة جذابيت الحج من جهة ثانية، حتى يمكن لنا أن نقيم ذلك الوصل ما بين تلكما الجهتين.

أما فيما يرتبط بنبي الله إبراهيم(ع)، فيمكن القول إن أهم مقام بلغه هو مقام الإمامة. إذ يقول له تعالى: "..إني جاعلك للناس إماماً.." (1) . أما فيما يرتبط بالثانية فينبغي القول إن حقيقة الحج تعبّر عن مسير قافلة البشرية الى الله تعالى، وتوحيده، ونبذ الأصنام والشرك..."ولله على الناس حج البيت"(2).                           

 من هنا نصل الى هذه النتيجة، بأن تتجنب عبادة الأصنام، ومزالق الشيطان، اذا ما اهتدت بهدي من اختاره الله تعالى لهدايتها الصراط المستقيم ومعالمه، وكان قادراً على ممارسة تلك الهداية وفعلها.

أما اذا ما اعرضت تلك القافلة عن الإمام وهدايته، فإنها قد تنحرف عن مجمل الأهداف والمقاصد، التي يريد الله تعالى منها بلوغها، لتقع في متاهات الضلال، علمت ذلك أم لم تعلم.

فمن دون ذلك الإمام، قد ينحرف الاجتماع الديني، وتنحرف معه مناسكه وعباداته عن معانيها الحقيقية، وأهدافها الحقّة. لتؤخذ الى غير أهدافها، ولتعطى معانٍ غير معانيها. إن روح العبادة هو الهداية للوصول الى الله تعالى. وهذا ما يتحقق فقط وفقط بالإمام. "..ولكل قومٍ هادٍ". ومن دون الإمام قد يُعمل على استغلال تلك المناسك، لتحقيق مصالح وأهواء تلك القوى المناوئة للدين الحق، وقيمه الحقة. عندما تجعل من تلك المناسك جسداً بلا روح، وجهداً بلا معنى، وفعلاً يخدم مصالح الطغاة وأهواءهم.

ألم يكن هناك حج أيام الجاهلية ؟. ألم يعمل الأمويون على إدارة موسم الحج والعناية به ؟. وهم عندما فعلوا ذلك، إنما كانوا يريدون استغلال هذا الموسم، وتوظيف مناسكه، لتحقيق مشروعهم في القضاء على المعاني الصحيحة للدين وقيمه، والترويج لثقافتهم وقيمهم، واعطاء مشروعية دينية لفسادهم وظلمهم.

هنا وبدل أن يكون الحج ليشهد المسلمون منافع لهم، يصبح لمنافع الفاسدين والظالمين ومصالحهم. وبدل أن يكون لتعلم معاني التوحيد الحقيقي، تراه يوظّف لتمجيد الحاكم وفعله. وبدل أن يكون دافعاً الى مزيد من الهداية، يُعمل على توظيف معانيه ومناسكه لتوصل الى موارد أخرى. 

من دون الإمام، قد يُعمل على تجريد الدين من قيمه الأساسية، والإبقاء على ظاهره، وظاهرٍ من طقوسه، لكسب مشروعية دينية، والسطو على قداسة الدين وطقسه. من دون الإمام قد لا يهتدي الناس الى المناسك الصحيحة، ولا يتبين الحق من الباطل عند  الاختلاف فيها، وفي أحكامها، ومعانيها.

بالإمام كمال الدين، وما فيه من عبادات ومناسك. بالإمام يتحقق هدف العبادة. فروح العبادة العبودية لله تعالى والخضوع له. وهذا ما يُعرف بالإمام وطاعته. ألم يأمر الله تعالى إبليس بالسجود لآدم ؟ ولمّا لم يفعل ذلك ذهبت عبادته أدراج الرياح ؟. فلا قيمة لأية عبادة، ما لم توصل الى طاعة غير مشروطة لله تعالى. واختبار هذه الطاعة، إنما يحصل في طاعة الإمام وأتباعه.

ومن هنا لا بد من القول إن الإمامة بما تعنيه من هداية، هي روح الحج ومناسكه. ومن دونها قد يفقد الحج روحه، وحقيقته، ومقاصده الحقة. بل قد يُؤخذ الى مقاصد أخرى، تخالف في جوهرها مقاصد الدين، وقيمه، ومعانيه. كما حصل ويحصل في أكثر مفصلٍ وزمان. 

ومن هنا نعي سرّ الوصل بين إبراهيم(ع) والحج، إذ يكمن ذلك السرّ في إمامة إبراهيم للناس، وهدايته لهم. وفي معاني تلك العلاقة ما بين مجمل الأحداث التي حصلت معه ومع أهله، وما بين مناسك الحج ودلائله.

بناءً على ما تقدم، لن يكون من المبالغة القول إن تمام الحج بيعة الإمام، وطاعته، ونصرته، وموالاته، والتبري من أعدائه. ومن دون ذلك لا يتمّ الحج، ولا يوصل الى أهدافه ومقاصده. وفي هذا المعنى جاء عن أئمة أهل البيت (ع) الأحاديث التالية:
عن أبي حمزة الثمالي، قال:" دخلت على أبي جعفر[الإمام الباقر(ع)]، وهو جالس على الباب الذي الى المسجد. وهو ينظر الى الناس يطوفون. فقال: يا أبا حمزة، بما أمروا هؤلاء ؟. [قال أبو حمزة]: فلم أدر ما أردّ عليه. فقال [الإمام(ع)]: إنما أمروا أن يطوفوا بهذه الأحجار، ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم"(1).

وحين نظر الإمام الباقر(ع) الى جموع الطائفين، قال: "أمروا أن يطّوفوا بهذا[أي البيت الحرام]، ثمّ يأتونا، فيُعرفوننا مودّتهم، ثمّ يعرضوا علينا نصرهم"(2).

وكان أبو جعفر الباقر(ع)  نظر الى الناس يطوفون وينصرفون، فقال: "والله لقد أمروا مع هذا  بغيره. قيل: وما هو يا بن رسول الله ؟ قال: أمروا اذا فرغوا من طوافهم أتونا، فعرضوا علينا أنفسهم"(3).

عن أبي جعفر(ع): " تمام الحج لقاء الإمام "(4).

عن الصادق(ع): "إذا حج أحدكم، فليختم بزيارتنا. لأن ذلك من تمام الحج"(5).

عن أبي جعفر(ع): "ابدؤوا بمكة. واختموا بنا"(6).

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله (ع)، قال[عبدالله بن سنان]: قلت: جعلت فداك، إن ذريحاً المحاربي حدّثني عنك بأنك قلت: "ليقضوا تفثهم لقاء الإمام... قال [الإمام]: صدق ذريح وصدقت..." (7).

وعن الفضيل، قال: دخلت مع أبي جعفر(ع) المسجد الحرام، وهو متكئ عليّ، فنظر الى الناس، ونحن على باب بني شيبة، فقال:" يا فضيل هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، لا يعرفون حقاً، ولا يدينون ديناً.." (8).

ما يستفاد من مجمل تلك الأحاديث، هو أن الأداء الصحيح للحج، والمعنى الحق لمناسكه، يقتضي أن يأتي الحجيج – بعد أداء تلك المناسك - الى إمامهم – الإمام الحق- وأهل بيت نبيهم (ص)، فيخبروهم أنهم يوالونهم بحق، ويعلمونهم مودتهم بصدق، ويعرضوا عليهم نصرهم، واتباعهم، وطاعتهم، والاستنان بسنّتهم، والالتزام بهديهم، والتّبري من أعدائهم...

وإلا فإنه من دون الاهتداء بمن أمر الله تعالى بالالتزام بهديه، وأخذ العلم، وبيان الكتاب وتأويله منه؛ فإن معاني الدين وتفسيرها تصبح عرضة للابتعاد من المعاني الصحيحة والقيم الحقة. وهذا ما يؤدي شيئاً فشيئاً الى اقترابها من قيم الجاهلية وتقاليدها.

ومن هنا ندرك ما جاء عن ابن عباس، من أن النبي (ص) قال عن الحجر الأسود بأنّ: "..استلامه اليوم، بيعةٌ لمن لم يدرك رسول الله (ص)..." (9). أي إن استلام الحجر الأسود هو بيعة لإمام الزمان، لأن من بايع الرسول (ص)، لا بد أن يبايع من أمر الرسول (ص) ببيعته وولايته.

وعليه، لا بدّ أن يكون معلوماً أن حقيقة الحج بيعة الإمام، ولقائه، وزيارته. وهو ما يعني بيعة نهجه، ورسالته، وقيمه، والتعهد بنصرتها، والالتزام بها، واتّباع هديها.

ومن خلال ما تقدم ندرك ذلك التأكيد على الوصل ما بين أهل البيت (ع) والأئمة وصولًا الى الإمام المهدي (ع) من جهة، وما بين الحجّ والبيت الحرام من جهة أخرى. حيث سنذكر جملة من تلك الموارد، التي تحقّق ذلك الوصل، وتدلّ عليه:

تؤكد الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) أن الإمام المهدي يحضر موسم الحج كلّ عام.
خروج الإمام المهدي (ع)، إنما يحصل في المسجد الحرام، عند البيت الحرام..

من مستحبات عيد الأضحى قراءة دعاء النّدبة، الذي هو دعاء مظلومية آل محمّد، والبشارة بالمهدي (ع) منهم.

ولعظيم تلك الصلة بين الإمام والحج – بل والدين كله بجميع عباداته - يقف الإمام الصادق (ع) بين جموع الناس، في التاسع من ذي الحجّة، في عرفة، رافعاً صوته، ليبلغ أسماع من يسمع، و ليبيّن لهم من هو الإمام بعد الإمام، لأن من جهل إمامه، جهل دينه، وضلّ عن سبيل ربه، فيقول: "يا أيها الناس، إن رسول الله (ص) كان الإمام، ثم علي بن أبي طالب (ع)، ثم الحسن (ع)، ثم الحسين (ع)، ثم علي بن الحسين (ع)، ثم محمد بن علي (ع)..." (10).

=============================================

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1414ه.ق، ط2، ج14، ص324.
2- الطبرسي، مستدرك الوسائل،  مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت، 1988م، ط2، ج10، ص182.
3- القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1963م، ج1، ص293.
4- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1376ه.ش، ط3، ج4، ص549.
5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س.
6- م.ن. ص321.
7- الكليني، الكافي، م.س.
8- م.ن، ج8، ص288.ب
9- الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج13، ص321.
10- المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983م، ط3، ج47، ص58.

بقلم/ الباحث في مجال الفلسفة/الدكتور محمد شقير

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة