فعندما يصل الباحث في المفردات القرآنية الى قوله جلت عظمته:
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان/49)
يتوقف ملياً عند لغة الخطاب القرآني لشريحة من أهل النار من أمثال أبي جهل (لع) الذين كانوا من أهل الفخر والخيلاء والتكبر على المسلمين والنبي الأكرم (ص).
فقد ورد في معنى قوله تعالى:
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾
أي قولوا ذلك له في جهنم على وجه التهكم والتوبيخ، وقال ابن عباس: أي لستَ بعزيز ولا كريم.
وسبب النزول أن النبي (ص) لقي أبا جهل (لع) فقال له: إن الله أمرني أن أقول لك ﴿أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ☆ ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ﴾ (القيامة/ ٣٤،٣٥).
فأجابه أبو جهل: [ما تستطيع أنت ولا صاحبك _ ربُّك _ من شيء، ولقد علمتَ أني أمنعُ أهلِ البطحاء، وأنا العزيز الكريم]. فقتله الله يوم بدر، وأذلّه، وعيّره بكلمته، وأنزل: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ كما قال ابن كثير.
أي أن لغة الخطاب هنا ليست حقيقية، والمخاطب بها يراد التهكم به، فأبو جهل كان يقول عن نفسه: [ما بين جبليها - اي مكة - أعز ولا أكرم مني].
فقال الله عز وجل:
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ بزعمك. ولا يقتصر الأمر على أبي جهل بل كل من يماثله في التكبر ومدح الذات من الكفار والعصاة والمنافقين، سابقاً وحالياً، عندما يعذَّب في النار يقال لمثل هذا الأثيم الشقي: (ذُقْ هذا العذاب الذي تعَذّب به اليوم لأنك أنت (العزيز) في قومك، (الكريم) عليهم كما ذكر الطبري.
ولعل سائلاً يسأل:
وكيف يقال له وهو يعذب ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾؟
والحقيقة انه غير وصف من قائل ذلك له بالعزة والكرم، ولكنه تقريعٌ منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا، وتوبيخٌ له بذلك على وجه الحكاية، لأنه كان يصف بذلك نفسه في الدنيا، فقيل له في الآخرة وهو في النار: ذُق هذا الهوان اليوم، فقد كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، والآن فإنك أنت الذليل المَهين، فأين الذي كنت تقول وتدعي من العز والكرم؟ هلا تمتنع من العذاب بعزتك؟ كما ذكر الطبري.
وذكر مثل ذلك القرطبي والبغوي والسعدي من باب الاستحقار والتنقيص والاستهزاء والاهانة. وهو كما قال قوم شعيب ب لنبيهم ﴿إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ (هود/7) يعنون: السفيه والجاهل، وهذا قول سعيد بن جبير << انظر القرطبي >>.
اما العلامة الطباطبائي (ره) فقال:
قوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) خطابٌ يخاطَب به الأثيم وهو يقاسي العذاب بعد العذاب، وتوصيفه بالعزة والكرامة على ما هو عليه من الذلة؛ استهزاءٌ به تشديداً لعذابه، وقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة وكرامة لا تفارقانه، كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله:
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾ (الكهف/36).
تفسير الميزان/ ج ١٨/ ص ١٤٨.
وهكذا يرى صاحب تفسير القمي انه عندما يقال له: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ فلفظه خبر ومعناه حكاية عمن يقال له ذلك، وذلك أن أبا جهل كان يقول: <انا العزيز الكريم> فيعير بذلك في النار
تفسير القمي/ على بن ابراهيم القمي/ ج ٢/ ص٢٩٢.
وهذا أيضاً منهج الطبرسي في تفسير ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم، فيقول له الملك: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك وفيما كنت تقول، وقيل إنه على معنى النقيض، فكأنه قيل له إنك أنت الذليل المهين، إلا أنه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به، وقيل معناه أنك أنت العزيز في قومك، الكريم عليهم، فما أغنى ذلك عنك.
مجمع البيان/ ج٩/ ص١١٣- ١١٧.
ولكن هل يصح القول إن الله يستهزئ كما يستهزئ الاشخاص، وهو ربّ العالمين؟ وما تفاصيل الاستهزاء كما ورد في القرآن؟
سنتعرف على ذلك تالياً في مقال لاحق، بتوفيق الله.
بقلم: د. رعد هادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي