فقد رُوِيَ عن الامام علِي ـ عليه السلام ـ أنه قال: "كُلُّ مَخْلُوقٍ يَجْري إِلى ما لا يَدْري".
كثيرة تلك الأمور التي كان الإنسان يجهلها ثم عرفها، إما بواسطة تعليم الغير له، أو بحث أو تجربة قام بهما، أو إلهام من الله تعالى، وكثيرة تلك الأمور التي لم يزل يجهلها سيعرف الكثير منها في المستقبل، خصوصاً تلك التي يمكن أن تقع في مجال التجربة المادية أو المعنوية، أو يمكن لعقله أن يدركها بإجالة النظر والإمعان في التفكير، وستبقى أمور غائبة عنه، وهي التي لا تدخل في إطار التجربة ولا يمكن للعقل أن يقول رأياً فيها، وهي التي تدخل في إطار الغيب. (نطرية المعرفة تبحث هذا الموضوع مفصلا).
والغيب منه ما هو نسبي، ومنه ما هو مطلق، ومن الغيب ما يُطلع الله عليه رُسُلَه وأولياءه إذا كان قيامهم بمهماتهم الرسالية يتوقف على معرفة ذلك، فيُطلعهم الله بالقَدْرِ اللازم، ومن الغيب ما لا يعلمه إلا هو سبحانه. وقد دَلَّ على ما تقدم طائفة من الآيات القرآنية الكريمة.
ومِمّا لا شكَّ فيه أن مصائرنا وعاقبة كل منا هي من تلك الأمور التي غُيِّبَت عنا، كما أن ما يكون منا من أعمال، وما يجري علينا من أحداث، غائبة عنا ونحن نجهلها تماماً، فنحن نعلم اللحظة الراهنة، بل لا نعلم جميع ما يجري في اللحظة الراهنة، فما أكثر ما يغيب عنا فيها، أما عن مستقبلنا بعد ساعة فهو غائب عنا تماماً، لا ندري ما يحدث فيه لنا أو علينا فضلاً عن سوانا من الناس، ناهيك عن المستقبل القريب والبعيد، فكل ذلك قد غُيِّبَ عنا، لحكمة ربانية عظيمة، تدفعنا من جهة إلى استغلال أعمارنا فيما يفيدنا في دنيانا وآخرتنا، ويبعد عنا القنوط، واليأس من رَوحِ الله.
والحق إن قول الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ "كُلُّ مَخْلُوقٍ يَجْري إِلى ما لا يَدْري" يشمل كل ما خلق الله تعالى من مخلوقات، جماداً كانت أم نامية، حيواناً كانت أم إنساناً، فكلها مصائرها بيد الله تعالى، والله أخفى مصائرها عنها، فجميعنا لا ندري إلى أين نجري، إننا نجري ولكن لا ندري إلى أين تأخذنا الأقدار الربانية التي قُدِّرَت لنا، وكم جرينا نحو أمر فانتهى بنا المطاف إلى أمر آخر.
ومن روائع ما قيل في هذا المجال ما رُوِيَ: أن رجلاً قام إلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال: "بِفَسْخِ العَزائِمِ وَنَقْضِ الهِمَمِ، لَمّا هَمَمْتُ فَحِيْلَ بَيْني وَبَيْنَ هَمّي، وَعَزَمْتُ فَخَالَفَ القَضَاءُ عَزْمي، عَلِمْتُ أَنَّ المُدَبِّرَ غَيري" والشاهد في كلامه ـ عليه السلام ـ الذي يستدل به على الله تعالى وتدبيره لشؤون عباده، أن العباد يعزمون على أمرٍ ولكن قدَرَ الله يأخذهم إلى أمرٍ آخر، وأنا أقطع أن ما من شخص إلا وقد مرَّ بتجربة أو تجارب من هذا القبيل.
إن جهلنا بمصائرنا وكونها من الغيب لا يعفينا من مسؤولياتنا تجاهها بلزوم الحرص على أن تكون عاقبة أمورنا خيراً، وأن يكون مصيرنا مُشرِّفاً في الدنيا والآخرة، لأنه من المقطوع به أن الإنسان مسؤول عن مصيره، ومصيره ناتج سعيه وكسبه قال تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ﴿41/ النجم﴾.
وقال تعالى: "إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴿22/الإنسان﴾ وقال تعالى: "...كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21/ الطور﴾ وقال تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿281/ البقرة﴾
بقلم / الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي