بعد انقطاع دام 13 عاماً، عاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى زيارة العراق، ووقّع مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اتفاقية استراتيجية، تشمل عدداً من القضايا التي تهم البلدين، والتي تُعَدّ من المسائل الحيوية في الأمن القومي والتنمية الاقتصادية لكلا البلدين.
وبالإضافة إلى "طريق التنمية" الذي تمّ توقيعه، طغت المسائل الشائكة على المحادثات بين البلدين، وأهمها قضية المياه التي تهم العراقيين بصورة أساسية، وتصدير النفط العراقي، وقضية حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا في "قوائم الإرهاب"، والتي تهم الأتراك لما يَعُدّونه تهديداً لأمنهم القومي.
لاشكّ في أن مراقبة الحركة التركية دبلوماسياً وسياسياً، في المنطقة، تشي بأن الأتراك يسيرون في المشروع الذي أعلنه إردوغان في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، وهو مشروع القرن التركي.
1- ما هو مشروع القرن التركي؟
هو مشروع طموح تهدف من خلاله تركيا إلى "إقامة جسر بين الماضي والمستقبل"، كما قال الرئيس إردوغان. وحدد إردوغان هذا المشروع بأنه "خريطة طريق شاملة، من شأنها أن ترفع (تركيا) فوق مستوى الحضارات المعاصرة". وأكد إردوغان أن الغرب كحضارة يتلاشى، وبالتالي فإن تركيا يمكنها استخدام تاريخها وقوتها لتحقيق ما سمّاه "محور تركيا".
أما وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، فقال إن "قرن تركيا" هو استراتيجية تواجه فيها تركيا عالماً يتسم بديناميكيات جيوسياسية سريعة التغير مقترنة بتحديات عالمية متزايدة باستمرار. لذا، تسعى تركيا لأن تكون دولة إقليمية قائدة ولأن تستفيد من "تحوّل النظام الإقليمي، وتساهم في إقامة نظام دولي تعددي وأكثر شمولاً".
2- تنفيذ "القرن التركي" في غرب اسيا
من خلال زيارة الرئيس التركي للعراق، يحاول الأتراك العودة إلى تصفير المشكلات في المنطقة، والاستفادة من التحولات فيها لجعل تركيا مركزاً لمشاريع التنمية، ولخطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا.
لاشكّ في أن الأبرز في الاتفاقيات، التي وُقعت بين كل من تركيا والعراق، هو بدء مشروع "طريق التنمية"، وهو عبارة عن طريق برية وسكة حديد تمتد من العراق إلى تركيا وموانئها، ويبلغ طوله 1200 كيلومتر داخل العراق، ويهدف إلى نقل البضائع بين أوروبا وكل من قطر والإمارات العربية المتحدة.
أما الأمر الثاني فهو الاتفاقية الأمنية، التي تشرّع التدخل التركي المستمر منذ زمن في الأراضي العراقية لقتال حزب العمال الكردستاني، الذي أعلنه العراق "منظمة إرهابية"، والذي لطالما قامت تركيا بانتهاك السيادة العراقية فيما تعدّه حقاً لها لحفظ أمنها القومي.
هذه المكاسب الاستراتيجية، وحاجة تركيا إلى الانتهاء من التهديد الكردي، دفعت الأتراك إلى التنازل وقبول الحديث عن هواجس العراقيين في موضوع المياه، عبر تشكيل لجان لبحث الأمر، والذي عدّه الرئيس إردوغان مرتبطاً بهدر المياه وعدم ترشيد استخدامها، بينما يرى العراق أن بناء السدود التركية على النهرين المشتركين (دجلة والفرات) أثّر في تدفق المياه إلى العراق، وخصوصاً بعد إنجاز تركيا بناء سد كيبان -وهو أحد السدود الضخمة- وتخزين المياه فيه، الأمر الذي أدى إلى نقص المياه في العراق إلى حد كبير، وبعدها قام الأتراك ببناء سد إليسو، الذي افتُتح عام 2018، وجعل المناطق العراقية تعاني التصحر والجفاف.
هذا في زيارة إردوغان للعراق. أما القضية الأخرى، التي تريد تركيا من خلالها تكريس نفوذها في غرب اسيا، فهي القضية الفلسطينية، والتي دخلتها تركيا مجدداً من بابها العريض، عبر استقبال إسماعيل هنية في تركيا، وزيارة هاكان فيدان لقطر.
تسعى تركيا حالياً لأن تشكّل "دولة ضامنة سياسياً وعسكرياً" لقطاع غزة فيما بعد الحرب. وإن نجحت في ذلك، فهذا يتيح لها الحضور بفعالية في شرقي المتوسط، مع ما يحويه من مكاسب استراتيجية ومتعلقة بتصدير الغاز إلى أوروبا، والذي تطمح تركيا إلى أن تصبح هي الممر والمركز لهذا الغاز.
في النتيجة، تنظر أغلبية الأطراف الفعّالة في المنطقة إلى الاستفادة من مشاريع التنمية المتعددة والمتنافسة فيها، والتي تهدف إلى ربط الخليج (الفارسي) بأوروبا، والتي كانت الولايات المتحدة تسعى لتمريرها عبر "إسرائيل" وميناء حيفا، بينما تسعى تركيا لتشكيل بديل ملائم وأكثر جدوى ومقبولية من الممر الإسرائيلي نحو أوروبا، الأمر الذي يسمح لها بتطبيق استراتيجية طموحة بعنوان "القرن التركي"، لتصبح دولة قائدة في المنطقة، ومنها تجلس إلى طاولة الكبار في العالم (بحسب التصورات التركية).
ليلى نقولا - موقع الميادين