فيمكنه أن يكون عابداً وهو يطلب العلم، ويعمل ويتواصل مع الناس، وكل عمل يتقرب به إلى الله تعالى، بل جاء في الروايات أن خدمة الناس من أجَلِّ العبادات.
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "قَليلٌ يَخِفُّ عَلَيْكَ عَمَلُهُ خَيرٌ مِنْ كَثيرٍ يُسْتَثْقَلُ حَمْلُهُ".
لا تُثقِل على نفسك بالأحمال الكثيرة فتنوء بحملها، وإذا ناءت بحملها كرهتها، فتأتي النتيجة عكس التي كنت ترجوها، يحدث ذلك معنا في الكثير من الأمور، حيث نريد أن نعمل أعمالاً كثيرة في وقت واحد، والوقت لا يتسع لها جميعاً، وقدراتنا البدنية والذهنية لا تقوى عليها جميعاً، ولكلٍّ منها ثِقلٌ وعِبء، فينهكنا ذلك، ويُحَمِّلنا أثقالاً ننوءُ بحملها، والنتيجة الحتمية لكل ذلك ألا نُنجز الكثير منها، أو نتخلى عنها، وقد كان في إمكاننا لو صنَّفنا تلك الأعمال إلى المُهِم والأَهَمِّ، والأخَفِّ مؤونة والأثقل، والسهل عمله والصعب، ثم بدأنا بالأهم والأخف والسهل فأنجزناه، أوجد ذلك فينا رغبة لإنجاز المزيد وقدرة عليه. وهكذا دواليك حتى ننجِز كل ما نرغب في إنجازه.
كذلك الحال في تعاملنا مع العبادات إننا نجد البعض قد يندفع نحو أداء العبادات، وهذا أمر مرغوب ومطلوب، ولكنه ينصرف إليها دون غيرها من الأعمال الدنيوية الواجبة عليه، يبقى على ذلك مدة من الزمن ثم يجد أن حاجاته الأخرى تناديه وهي ضرورية لحياته فيترك العبادات وينصرف عنها إلى شؤون الحياة، إن ذلك خطأ فادح، فلا الأولى صحيحة ولا الثانية.
أما الأولى:
فلأنَّ العبادة لا تقتصر على الفرائض والنوافل بل تعمُّ كل استجابة لأمر الله تعالى في مختلف مجالات الحياة، فيمكنه أن يكون عابداً وهو يطلب العلم، ويعمل، ويبني، ويخترع، ويزرع، ويتواصل مع الناس، وكل عمل يتقرب به إلى الله تعالى، بل جاء في الروايات أن خدمة الناس من أجَلِّ العبادات، كما يمكنه أن يكون في كل حال من أحواله ذاكراً الله تعالى لا باللسان وحسب، بل بالشعور الدائم أنه في عين الله تعالى وفي محضره المقدس.
وأما الثانية:
فلأنَّ الانصراف عن العبادة بالمعنى الذي ذكرتُ خطأ كذلك، لأن الإنسان ذو بعدين: بعد مادي يحتاج إلى طعام وشراب ودواء ولباس ومنزل وسيارة ومال وسوى ذلك من الحاجات المادية التي تتطلَّب العمل والسَّعي لتحصيلها، وبعد روحي معنوي تغذيه العبادات من واجبات ونوافل وأذكار وشعائر، وسوى ذلك.
ولذلك حذَّر الإسلام من الإفراط ومن التفريط، ودعا المسلم إلى التوازن في جميع حياته، حتى قال له: "اعْمَلْ لِدُنْياكَ كَأَنَّكَ تَعِيْشُ أَبَداً، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَموتُ غَداً" كما دعاه إلى الاقتصاد في أداء العبادات، وحثَّه على عدم الزيادة وتجَنُّب المُبالغة فيها.
فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: "اجْتَهَدْتُ في العِبَادَةِ وَأَنا شَابٌّ، فَقالَ لي أَبي: يا بُنَيَّ، دونَ مَا أراك تَصْنَعُ، فِإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذا أَحَبَّ عَبْداً رَضِيَ عَنْهُ بِالْيَسِيْرِ" فقوله (ع): دونَ مَا أراك تَصْنَعُ، أي إنك تعمل الكثير، تثقل بذلك على نفسك، فقلِّل من ذلك واعمل يسيراً من الأعمال.
وأوصى الإمام أمير المؤمنين (ع) ولده الإمام الحسن المجتبى (ع) "...واقْتَصِدْ يا بُنَيَّ في مَعِيْشَتِكَ، واقْتَصِدْ في عِبَادَتِكَ"
وإليك قارئي الكريم هذه الحديث النبوي الشريف الذي يجب أن نعتمده منهجاً لحياتنا فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "ألا إِنَّ لِكُلِّ عِبادَةٍ شِرَّةً (أي رغبة ونشاطاً) ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى فَتْرَةٍ، فَمَنْ صَارْتْ شِرَّةُ عِبَادَتِهِ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اِهْتَدَى، وَمَنْ خَالَفَ سُنَّتِي فَقدْ ضَلَّ، وَكَان عَمَلُهُ فِي تَبَابٍ (أي هلاك) أَمَا إِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَضْحَكُ وَأَبْكِي، فَمَنْ رَغِب عَنْ مِنْهَاجِي وَسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
تلك هي سُنَّة رسول الله (ص) سُنَّته خير السُّنَن، وهديه خير الهدى، وذلك منهجه في الحياة، قائم على التوازن لا إفراط معه ولا تفريط، وإن الدين لا يهدف إلى إرهاق الإنسان، بل يهدف إلى إراحته وتسهيل حياته، وفوزه وفلاحه وسعادته في الدنيا وفي الآخرة، الدين جاء ليخدم الإنسان لا ليُتعِبه ويدخله في الحرج والعسر.
وأوصى رسول الله (ص) علياً (ع) فقال: "يا عَلِيُّ إِنَّ هذَا الدِّين متينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، إِنَّ اَلْمُنْبَتَّ (يَعْنِي اَلْمُفْرِطَ) لا ظَهْراً أَبْقَى ولاَ أَرْضاً قَطَعَ، فَاعْمَلْ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَمُوتَ هَرِماً، وَاحْذَرْ حَذَرَ مَنْ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَمُوت غَداً".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية
السيد بلال وهبي