"إنّني أعلن بصوتٍ عال من دمشق، أنّ الكيان الصهيوني سيلقى عقابه، وأنّ أميركا تتحمّل المسؤولية إزاء العدوان الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق".
أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني
لم يكن العدوان الإسرائيليّ الذي استهدف القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، دمشق، الإثنين، الفاتح من هذا الشهر نيسان/ أبريل، هو الأوّل لجهة استهدافه أشخاصاً من رعايا الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا، بدعوى عملهم ونشاطهم وجهودهم المؤثّرة على جبهة المقاومة مع هذا العدو.
فقد دأب كيان الاحتلال، منذ بدء معركة "طوفان الأقصى" على وجه الخصوص، على تصعيد استهدافاته ضد المستشارين والقادة الإيرانيين الذين يعملون مع الجيش العربي السوري وفصائل المقاومة في سوريا والإقليم، وهو أمرٌ متوقّع نظراً لحجم الألم والخسارة التي سبّبها ويُسبّبها هؤلاء ورفاقهم في فلسطين والمنطقة لـ"جيش" العدو، ولمستوى الخطر الوجوديّ الذي يرى القادة السياسيون والعسكريون في "تلّ أبيب" أنّ عمل هؤلاء قد أحدثه في أركان الكيان.
لكنّ هذا العدوان هو الأول من نوعه وشكله خلال عقود طويلة ربّما، فالكيان الذي لا تحكمه قوانين دولية أو أعراف إنسانية أو سياسية أو عسكرية، قرّر الاعتداء بالصواريخ، وفي وضح النهار، على مبنى دبلوماسيّ يقع في حيّ سكنيّ في قلب عاصمة أخرى، وهو أمر قلّما يحدث في التاريخ، وإنْ حدث، فمن المحتمل أنْ يتسبّب في اندلاع حربٍ كبرى تصطفّ فيها العديد من الدول والقوى العالميّة مقابل بعضها البعض بالسلاح الكامل، وهو ما أراده مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، تماماً، باعتبار أنّ مثل هذه الحرب، هي النفق الأخير الذي قد ينقل الرجل الغائص حتى أذنيه في أوحال غزّة ورفح، والذي يواجه كمائن "الأبرار" خلف خطوط قواته، بعد سبعة أشهر من "الانتصارات" الدمويّة على الأطفال والنساء والشيوخ والبيوت التي كان يسكنها أصحاب تلك الأرض، ويهرب من خلاله إلى لُجّةِ بحرِ دمٍ عالميّ جديد تتكسّر فوق أمواجه صرخات "الشارع الإسرائيلي" اليائس الذي يطالب بمحاسبة ومعاقبة المهزومين في غزّة، وإعادة الجنود والمستوطنين الأسرى لدى فصائل المقاومة على وجه السرعة.
من جهة ثانية، فإنّ الأمر لا يتعلّق بنتنياهو وأركان حربه ومصائرهم وحدهم، فقد عوّدنا الصهاينة أنهم لا يتصرّفون انطلاقاً من مصالح أفرادٍ أو أشخاص قلّة، كائناً من كانوا، بل ترقى المصلحة الصهيونية الوحشيّة العليا، على رغبات ومصالح جميع الأفراد والجماعات، حتى لو كانوا جماعات من اليهود أنفسهم، وفي تاريخ الإجرام الصهيونيّ العديد من الأمثلة على ذلك، ليس آخرها عملية "لافون" الشهيرة في مصر، والتي قُتل خلالها العديد من يهود مصر ودُمّرت ممتلكاتهم لدفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين المحتلة خلال خمسينيات القرن الماضي، بل إنّ في معركة "طوفان الأقصى" ذاتها، شاهداً صارخاً على الأمر، وهو قتل العديد من الأسرى الإسرائيليين الموجودين في غزّة بصواريخ وقذائف "الجيش" الصهيونيّ، عن سابق إصرار وعلم، وذلك في سبيل قتل أكبر عدد من المدنيين الفلسطينيين، وإحداث أفظع دمارٍ ممكن في غزّة.
وبالتالي، فإنّ "طوفان الأقصى"، وكلّ جهود قادة وجنود المقاومة في فلسطين والمنطقة، وفي مقدّمهم اللواء الشهيد محمد رضا زاهدي، والعميد الشهيد محمد هادي حاجي رحيمي، ورفاقهما، قد أوصلوا العقل الصهيونيّ إلى استجداء مثل تلك الحرب، باعتبارها طوق نجاةٍ أخير.
والكيان الذي حوّله "طوفان الأقصى" إلى سُبَّة على ألسنة الناس في أركان العالم الأربع، وبات رمزاً للإجرام والجنون، ومبعثاً على الكراهية والاحتقار والنبذ، وكشفت المقاومة في فلسطين والمنطقة عن مدى هشاشته وضعفه وعجزه عن تحقيق أي إنجاز عسكريّ مؤثّر في الصراع، والذي توقّفت كل أهدافه عند قتل المدنيين وتدمير البيوت على رؤوس سكانها، حتى بات هذا المشهد الوحشي مرادفًا لكلمة "إسرائيل" ومعرّفاً عنها لدى معظم سكان العالم، والذي أزاحت هذه المعركة البطولية الستار عن كل كوارثه الداخلية وانقساماته وتخلخل أركانه الاجتماعية والعسكرية والسياسية، بات العديد من قادته يرون أنّ توريط العالم في حرب كبرى في هذه المنطقة، هو المخرج الوحيد الذي قد يُفضي إلى إعادة الترتيب، أو "إعادة الإحياء" بحسب المشيئة الصهيونية. وهذا كلّه، تعرفه طهران ودمشق وقوى المقاومة جيداً، وهو ما لا يمكن إغفاله عند الحديث عن طبيعة وشكل وتوقيت الردّ الإيرانيّ، وليس الردّ ذاته.
في الشكل، يريد القادة الصهاينة القول إنّهم يعتدون على سوريا بسبب النشاط الإيراني المقاوم على الأرض السورية، وإنّ الوجود أو "النفوذ الإيراني"، كما تسمّيه آلة المستعمر الإعلاميّة، هو ما يجلب الويلات على سوريا وأهلها، وقد اختفت بالفعل، سردية "استهداف شحنات أسلحة لحزب الله" التي صدّرها الإعلام الصهيوني لسنوات طويلة بعد كل اعتداء على الأرض السورية، لتحلّ سرديّة استهداف مقارّ أو مواقع أو شخصيات إيرانية مكانها، وفي هذا رسالة إلى المواطنين السوريين قبل أي أحد آخر، الهدف منها جعلهم يوقنون أن موقع بلادهم المركزيّ في هذا "الحلف الفلسطينيّ"، هو سبب كل كارثة حلّت وتحلّ بهم، وأنّ العلاقة مع إيران وقوى المقاومة في المنطقة، هي خيار الدمار الأكيد.
وتلك رسائل وصلت إلى دمشق مراراً وتكراراً، سواء داخل مظاريف سياسية ودبلوماسية مغلّفة بالتهديد والوعيد والترغيب والوعود، أو بالحرب والصواريخ والتفجيرات والتدمير والحصار والتجويع، وذلك خلال كلّ المحطات والمنعطفات الكبرى في المنطقة، سواء عند اجتياح العراق ومجيء وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولن باول، بمطالبه ووعوده الشهيرة عقب احتلال بغداد، أو بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، أو عند بداية الأزمة في سوريا، العام 2011، بل وحتى خلال الحرب على سوريا، ولعدة مرات، وأخيراً عند اغتيال الجنرال زاهدي ورفاقه.
جميع تلك الرسائل كانت ذات مضمون واحد ومشابه: تخلّوا عن حلفكم مع إيران وفصائل المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وخذوا ما تشاؤون، وإلّا، فإنّكم ستُقتلون أو تموتون جوعاً. ويمكن اختصار كلّ تلك الرسائل، وكل تلك الحرب، وكل تلك الاعتداءات المتلاحقة والمتواصلة حتى اللحظة، بعبارة موجزةٍ أكيدة وواحدة: تخلّوا عن فلسطين، وخذوا كل ما تطلبون.
إذاً، المستهدف الأول والنهائيّ في سوريا، هي فلسطين في القرار السوريّ، وفلسطين في ضمير كل مواطن أو مسؤول سوريّ. وهي رسائل حملها مسؤولون من جنسيات عديدة، ونقلتها صواريخ واستخبارات ومتطرفون إرهابيون من شتّى الجنسيات، وقد كتبتها جهة رئيسية واحدة، هي الولايات المتحدة الأميركية التي ترعى هذا الكيان وتحميه، ولهذا جاء كلام وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، عن المسؤولية الأميركية عن استهداف السفارة واضحاً ولا لبس فيه.
فإيران المستهدفة والمحاصرة منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها العام 1979، بسبب رفعها لواء فلسطين، تقرأ وتدرك المنطلقات والأسباب والتداعيات والنتائج جيّداً، وكذلك تفعل دمشق.
في الواقع، وبعيداً عن كل السرديات المخاتلة والمضلّلة، وفي قراءة سريعة لكلّ الاعتداءات الإسرائيلية والأميركية على سوريا خلال السنوات الأخيرة، نجد أن النسبة الأعظم من تلك الاعتداءات قد استهدفت مقدّرات الجيش العربي السوريّ، وتحديداً مراكز أبحاثه وقوات دفاعه الجويّ التي تشكّل خطراً على الكيان، وهدفت إلى منع هذا الجيش من استعادة المبادرة على هذا المستوى، بعد عشر سنوات من الحرب العالمية التي فُرضت عليه لأجل حماية كيان الاحتلال.
وفي هذا الشأن، لاحقت صواريخ "إسرائيل"، بإرشادٍ ومساعدة لوجستية مؤثرة من "جيش" الاحتلال الأميركيّ ووسائل تجسّسه، كل عربة "بانتسير" على الأرض السورية، وحاولت تدمير كل مربض لمدفعٍ مضادّ أو صاروخ دفاع جويّ في كل موقع عسكريّ سوريّ، وقد كلّفت تلك الاعتداءات الجيش العربي السوريّ أرواح المئات من خيرة ضباطه وجنوده العاملين على هذا السلاح خلال السنوات الأربع الأخيرة فقط.
ولعلّ أكبر كاشفٍ لهذه الاعتداءات وأهدافها هو تصاعدها وازديادها في مرحلة "طوفان الأقصى" المباركة، فالكيان الذي يتخبّط "جيشه" أمام المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ويختبر أقسى مراحل وجوده العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية هناك، يجد أنّ من الضروري والمصيريّ جدّاً في هذه المرحلة الفاصلة، عدم إغفال الجيش العربي السوري وقدراته ونشاط المقاومة الحليفة له على الأرض السورية، وهنا يُعيدنا هذا الكيان إلى فلسطين التي يبدأ كل شيء عندها، وينتهي، وحقيقة أنّ كلّ شيء متعلّق بها، وأنّ جميع الاعتداءات الأخيرة على سوريا، ومنها العدوان على القنصلية الإيرانية واستشهاد الجنرال زاهدي ورفاقه، هي جزء أصيل من معركة "طوفان الأقصى".
وهنا أيضاً، تُصوّب لنا أفعال هذا الكيان المجرم جميع الأسئلة، وعلى رأسها تلك المتعلقة بـ"الردّ الإيراني"، والتي غصّت بها التحليلات والكتابات والتصريحات منذ لحظة العدوان حتى الساعة، ليصبح السؤال الصحيح هو حول "ردّ فلسطين" من إيران، وردّ كلّ مقاومةٍ لأجل فلسطين، من كلّ بقعةٍ في هذه المنطقة. ولهذا أيضاً يكون الردّ حتميّاً وواجباً ومطلباً لكلّ مواطن إيرانيّ وسوريّ، ولكلّ أهل المقاومة وكلّ حرّ في هذا العالم. ويبقى التوقّف عند اختلاف شكل الردّ وطبيعته ومكانه، بسبب اختلاف شكل العدوان وطبيعته وكسره لكل الخطوط الحمر المعمول بها في الحروب والصراعات.
أمّا التوقيت، فهو أهمّ نقطة لدى قادة الكيان الذين تمنّوه سريعاً وعاجلاً وصاخباً، بهدف بلوغ غاية الاستفزاز لأجل التوريط في مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة وأعوانها في المنطقة والعالم، وبالتالي التخفيف عن الكيان وإخراجه من مأزقه. كما هو في المقابل، أهمّ نقطة لدى العقل الإيراني والمقاوم، الذي أثبت خلال جميع مراحل الصراع، أنه عصيّ على الانقياد باتّجاه ما يريده العدو، والتصرّف بحسب ردود أفعال غير محسوبة جيّداً، ولعلّ في تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله) وفلسطين (حماس تحديداً)، كما في تجربة الدولة السورية خلال "عشرية النار" الأليمة، ما يكشف عن الطريقة التي تنتهجها العقول التي تدير الصراع على جبهة محور المقاومة، والتي دفعت هذا الكيان وداعمه الرئيسيّ، واشنطن، نحو الجنون ومراكمة الخسائر الاستراتيجية التي بلغت حدّ التهديد الحقيقيّ لوجودهما في هذه المنطقة.
ولا شكّ أنّ الكثير جدّاً من العرب الساخرين من مبدأ "الصبر الاستراتيجيّ" الذي تفرضه أحياناً موازين القوى العالمية وحسابات القدرات الدقيقة، سيتوقّفون طويلاً، وخلال سنوات قليلة جدّاً، أمام النتائج النهائية الوشيكة لهذا الصراع، والذي بات أهل المقاومة يميّزونها بوضوح شديد، هذا من دون أنْ نغفل مدى الآلام والخسائر التي تكبّدناها، والدماء الزكيّة التي فقدناها بهدف الوصول إلى تلك الفسحة الشريفة المنشودة تحت شمس العالم.
لن تتوقّف الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، طالما فلسطين محتلّة، وطالما ترفع دمشق راية المقاومة والتحرّر والتحرير، كما لن تكون دماء الشهيدين زاهدي ورحيمي آخر الأثمان الغالية جدّاً، التي ستدفعها طهران على هذا الطريق، سواء على الأرض السورية أو في الداخل الإيراني، حيث أدوات أميركا و"إسرائيل" التي تدفعها بقوة باتّجاه ضرب أمن الدولة والمواطن في جمهورية الثورة، بسبب فلسطين قبل وبعد كل شيء. تماماً كما تفعل من خلال أدواتها في سوريا، وكذلك في لبنان.
وهنا أيضاً تظهر "كرامات" فلسطين ومعركة "طوفان الأقصى" التي باتت حقّاً: كاشفةً رافعةً خافضة، فمِنْ "جيش العدل" على الحدود الإيرانية – الباكستانية، إلى جيوش التكفيريين على مختلف الحدود والجبهات السورية، إلى الأصوات العالية المعادية للمقاومة في لبنان، والتي تتحدّث لغة "إسرائيل" حرفيّاً من دون مواربة أو تنميق، فبات التنسيق واضحاً في كل عدوانٍ عسكريّ أو سياسيّ على قوى المقاومة في المنطقة. بل إنّ تكرار الأسئلة المخاتلة والجمل الفارغة ذاتها حول "الردّ الإيرانيّ"، تبدو متشابهةً في الشكل والمضمون على ألسنة هؤلاء، وهي لا تكاد تبرح سطر الشماتة والاستفزاز الغبيّ.
أمّا الردّ الحقيقيّ ذاته على كل اعتداءات هذا العدو وجرائمه، في نهج المقاومة وقاموسها واستراتيجياتها، فهو قدر العدو الذي يلاقيه الآن، وسيلاقيه لاحقاً لا ريب. ولدى أهل المقاومة إيمان مطلق بحتمية بلوغ مطلبهم وهدفهم هذا، وصولاً إلى الحريّة والتحرير.
موقع الميادين