صنَّفتِ الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ (ع) الصومَ إلى مراتبَ ثلاث:
فالمرتبةُ الأولى: هي صومُ الجسدِ،
والمرتبةُ الثانيةُ هي صومُ الجوارحِ،
وأما المرتبةُ الثالثةُ وهي أفضلُ المراتبِ وأعلاها فهي صومُ القلبِ.
صومُ الجسدِ:
أما صومُ الجسدِ، فعرَّفتْه بعضُ الرواياتِ بالصومِ عن الأغذيةِ خوفاً من العقابِ، وعبَّرتْ عنه بعضُ الرواياتِ بصومِ البطنِ يعني الإمساكَ عن المفطِّراتِ، وهذه المرتبةُ من الصومِ وإنْ كانت هي أدونَ المراتبِ من حيثُ الفضل إلا أنَّها رغم ذلك تحظى في نفسها بفضلٍ عظيم كما تُعبِّرُ عن ذلك المنحُ الإلهيَّةُ التي يُعطاها مَن التزمَ بهذه المرتبةِ من الصومِ.
فمِن ذلك ما وردَ عن الرسولِ الكريم (ص) أنَّه قال: "مَن منعَه الصيامُ مِن طعامٍ يشتهيه كان حقَّاً على اللهِ أنْ يُطعمَه من طعامِ الجنَّةِ، ويَسقيه من شرابِها"(2).
فظاهرُ الحديثِ الشريفِ أنَّ مجرَد الالتزامِ بالصومِ بمرتبتِه الأولى كافٍ للحظوةِ بنعيمِ الجنَّة، وكذلك هو مفادُ ما ورد عن أبي عبدالله (ع) قال: قال رسولُ اللهِ (ص) "ما مِن صائمٍ يحضرُ قوماً يَطعمونَ إلا سبَّحتْ أعضاؤه، وكانت صلاةُ الملائكةِ عليه، وكانت صلاتُه استغفارًا"(3).
فالمكلَّفُ حين يُجاهدُ نفسَه ويَمتنعُ عن تناولِ الطعامِ والشرابِ قربةً للهِ تعالى فإنَّه يكون محلاً لكرامةِ الله تعالى، فيَحظى بصلاةِ ملائكتِه عليه واستغفارِهم له، ثم يمنحُه اللهُ تعالى ثوابَ تسبيحِ أعضائِه.
ولعلَّ معنى أنَّ الله تعالى يمنح الصائم ثواب تسبيح أعضائه هو انَّه تعالى يحتسبُ لكلِّ عضوٍ من أعضاءِ الصائمِ -ذاقَ مرارةَ الصومِ- ثوابَ التسبيحِ ثم يمنحُ ثوابَ ذلك التسبيحِ للصائم، وقريبٌ من هذا المعنى ما وردَ في خُطبةِ الرسولِ (ص) التي خطبَها في نهايةِ شعبانَ، يقولُ (ص): "أنفاسُكم فيه تسبيحٌ، ونومُكم فيه عبادةٌ، وعملُكم فيه مقبولٌ، ودعاؤكم فيه مستجابٌ"(4) وورد عن أميرِ المؤمنين (ع) أنَّه قال: "نومُ الصائمِ عبادةٌ، وصمتُه تسبيحٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وعملُه مضاعَفٌ، إنَّ للصائمِ عند إفطارِه دعوةٌ لا تُردُّ"(5).
فدقَّاتُ قلبِ الصائم وأنفاسُه وحركاتُ جوارحِه وأعضائِه تسبيحٌ لله تعالى، وهو حين ينامُ يكونُ في عبادةٍ، وحين يَعملُ طاعةً من الطاعاتِ فإنَّها تحظى بالقبولِ رغم انَّها قد لا تَحظى بالقبولِ في غيرِ ظرفِ الصومِ، فالصومُ بمقتضى هذه الروايات يكونُ مقتضياً لقبولِ الطاعات، وهو كذلك مقتضٍ لإستجابةِ الدعاء.
وكلُّ هذه المنحِ الإلهيَّة يحظى بها الصائمُ حتى وإنْ كان صومُه بمرتبةِ صوم الجسدِ لكنَّه لا ينبغي للمؤمنِ أنْ يَقنعَ بهذه المرتبةِ من الصومِ، فإنَّ ثمة الكثيرَ من العطايا والمواهبِ الإلهيَّة تفوتُه حين يُخفِقُ في تخطِّي هذه المرتبةِ إلى المرتبةِ الثانيةِ والثالثةِ بل قد يُحرَمُ من بعضِ هذه المنحِ أو من أكثرِها، ذلك لأنَّ اقترافَ ما يُنافي صومَ الجوارحِ قد يُساهمُ في الحيلولةِ دون الحظوةِ بمِنَحِ المرتبةِ الأولى من الصومِ المعبَّرِ عنها بصومِ الجسدِ.
كما يُؤيدُ ذلك ما وردَ عن الرسولِ الكريم (ص): "الصائمُ في عبادةِ اللهِ، وإنْ كان نائماً على فراشِه، ما لم يغتبْ مسلما"(6) فالتأهلُ لمواهبِ صومِ الجسدِ منوطٌ بمقتضى هذه الروايةِ بعدمِ الاقترافِ للغيبةِ، وكذلك ما وردَ في الحديثِ القدسي: "من لم تَصُم جوارحُه عن محارمي فلا حاجةَ لي في أنْ يدعَ طعامَه وشرابَه من أجلي"(7).
فظاهرُ الحديثِ أنَّ هذا التاركَ لصومِ الجوارح كان صومُه خالصاً للهِ تعالى كما هو مفادُ قولِه: "من أجلي" ورغم ذلك أفاد الحديثُ أنَّ هذا الصومَ غيرُ مقبولٍ للهِ تعالى، ذلك لأنَّ فاعلَه اقتصرَ على صومِ الجسدِ، فلم تصُمْ جوارحُه عن محارمِ الله تعالى ولهذا فإمساكُه عن المفطِّراتِ بحسب الحديث لا يثمرُ القبولَ، فلا يقبلُ اللهُ صومَ العبدِ عن الطعامِ والشرابِ ما لم تصُم جوارحُه عن محارمِ اللهِ تعالى.
صومُ الجوارح:
وممَّا ذكرناه يَتَّضحُ المرادُ من صومِ الجوارحِ، فقد أفادتِ الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ (ع) أنَّ صومَ الجوارحِ هو كفُّها عن مقارفةِ المحارمِ كلٌّ بما يناسبُها، فصومُ جارحةِ اللسانِ هو كفُّها عن مثلِ الكذبِ والغيبةِ والنميمةِ والبهتانِ والسُخريةِ والتنابزِ بالألقابِ والشتيمةِ.
وصوم جارحة البصر هو غضُّ البصرِ عما حرَّم اللهُ النظرَ إليه كالنظرِ للأجنبيةِ أو النظرِ للمشاهدِ المنافيةِ للآدابِ.
وصومُ جارحةِ السمعِ هو الامتناعُ عن الإصغاءِ لمثلِ الغيبةِ والغناءِ واللهوِ والإستهزاءِ وكلامِ المضلِّينَ وأهلِ البِدَعِ، وصومُ اليدِ هو الكفُّ عن البطشِ بها والسلبِ والنهبِ.
وصومُ الرِجْلِ هو عدمُ السعي بها إلى مجالسِ المعصيةِ واللهوِ، ومجالس الذين يخوضونَ في آياتِ اللهِ ويسخرونَ منها، وهكذا فإنَّ لكلِّ جارحةٍ ما يُناسبُها من الذنوب، وصومُها يعني الكفَّ عن تلك الذنوبِ، فصومُ الجوارحِ والذي هو المرتبةُ الثانيةِ من مراتبِ الصومِ يعني الامتناعَ عن كلِّ معصيةٍ يتوسلُ الإنسانُ في اقترافِها بجارحةٍ من جوارحِه.
وقد ركَّزتِ الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ (ع) على هذه المرتبةِ من الصومِ حتى كأنَ الصومَ لا يتمُّ ولا يصحُّ إلا بالالتزامِ بهذه المرتبةِ.
فمِن ذلك ما ورد عن السيدةِ فاطمةَ (ع) قالت: "ما يصنعُ الصائمُ بصيامِه إذا لم يصُنْ لسانَه وسمعَه وبصرَه وجوارحَه"(8) فالصومُ أشبهُ بالعبَثِ حينَ لا يصونُ معه الصائمُ لسانَه وسمعَه وبصرَه وجوارحَه عن المعصيةِ.
ومن ذلك ما ورد في الدعاءِ المأثورِ عن الإمامِ زينِ العابدينَ (ع) قال: "وأَعِنَّا عَلَى صِيَامِه بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، واسْتِعْمَالِهَا فِيه بِمَا يُرْضِيكَ، حَتَّى لَا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إلى لَغْوٍ، ولَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إلى لَهْوٍ، وحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلى مَحْظُورٍ، ولَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلى مَحْجُورٍ، وحَتَّى لَا تَعِيَ بُطُونُنَا إِلَّا مَا أَحْلَلْتَ، ولَا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إِلَّا بِمَا مَثَّلْتَ، ولَا نَتَكَلَّفَ إِلَّا مَا يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، ولَا نَتَعَاطَى إِلَّا الَّذِي يَقِي مِنْ عِقَابِكَ"(9).
فالصيامُ الذي يَسألُ الإمامُ (ع) ربَّه العونَ عليه هو كفُّ الجوارحِ عن المعاصي، فبذلك يتمُّ الصومُ الحقيقيُّ الذي تعبَّدَ اللهُ تعالى به عبادَه، فماذا يصنعُ اللهُ تعالى ببطنٍ خاوِ وشفةٍ ذابلةٍ إذا لم يكنْ ذلك مصحوباً بالتورُّعِ عن محارمِ الله الذي هو ملاكُ الأمرِ بالصومِ.
ولذلك وردَ في المأثورِ أنَّ الرسولَ الكريمَ (ص) قال لامرأةٍ صائمةٍ تسبُّ جاريةً لها، فدعاها النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) وأمرها بتناولِ الطعامِ فامتنعتْ لكونِها صائمةً، فقال (ص):كيف تكونينَ صائمةً وقد سبَبتِ جاريتَك؟! إنَّ الصومَ ليس من الطعامِ والشرابِ، وإنَّما جَعل اللهُ ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحشِ من الفعلِ والقولِ.. ثم قال (ص): ما أقلَّ الصُوَّامَ وأكثرَ الجُوَّاعَ!"(10)
ووردَ عن الإمامِ الصادقِ (ع): "إذا صُمتَ فليصُمْ سمعُك وبصرُك وشعرُك وجلدُك وعدَّدَ أشياءَ غيرَ هذا، وقال: لا يكونُ يومُ صومِك كيومِ فِطْرِك"(11).
فللجلدِ والشعرِ صومٌ كما لكلِّ جارحةٍ صومٌ، فإذا صافحَ الرجلُ الأجنبيَّةَ فهو ممَّن لم يصمْ جِلدُه، وهكذا حينَ تأذنُ المرأةُ للطبيبِ أنْ يمسَّها دونَ ضرورةٍ معذِّرةٍ فهي ممَّن لم يصُمْ جِلدُها، وكذلك حينَ تكشفُ المرأةُ شعرَها أمامَ الأجنبيِّ فهي ممَّن لم يصُمْ شعرُها، فللجلدِ والشعرِ صومٌ كما للسمعِ والبصرِ صومٌ.
ثم إنَّ لصومِ الجوارحِ مراتبَ، فمرتبتُه الأولى هو أنْ يَكُفَّ الصائمُ عن فعلِ الحرامِ، وعن قولِ الحرامِ، وعن السمعِ إلى الحرامِ، وعن النظرِ إلى الحرامِ، وعن السعيِّ إلى الحرامِ، هذه مرتبةٌ أولى من مراتبِ صومِ الجوارحِ، فإذا صامتْ جوارحُ الإنسانِ عن المعاصي فإنَّ مرتبةً أخرى تنتظرُه يَحسنُ به الحرصُ على تحصيلِها، وهي الالتزامُ بالآدابِ والسُننِ التي جاءَ بها الرسولُ (ص) فقد لا يرتكبُ الإنسانُ ذنباً عندما يكونُ صائماً ولكنَّه يكونُ مثلاً كالخشبةِ الملقاةِ على الأرضِ، نائمٌ ليلَه وفي النهارِ دوارٌ أو عابثٌ أو لاهٍ عن ذكرِ اللهِ عزَّ وجل، فمثله محروم من بعض مراتبِ صومِ الجوارح، فالذي تصومُ جوارحُه هو مَن يُكثرُ في حالِ صومِه مِن ذكرِ الله، يسبِّح اللهَ ويتلو القرآنَ، وإذا لم يكنْ على هذه الحالِ كان طويلَ الصمتِ كثيرَ التدبُّرِ والتأمُّلِ.
صومُ القلب:
وأمَّا المرتبةُ الثالثةُ من مراتبِ الصومِ فهي صومُ القلبِ وهي أعلى مراتبِ الصومِ كما أفادَ أميرُ المؤمنين (ع) بحسب ما رُوي عنه قال: "صومُ القلبِ خيرٌ من صيامِ اللسانِ، وصيامُ اللسانِ خيرٌ من صيامِ البطنِ"(12).
فما معنى صومِ القلبِ؟ والذي هو جارحةٌ من جوارحِ الإنسانِ، لماذا كان لجميعِ الجوارحِ مرتبةٌ واحدةٌ من الصومِ وكانَ للقلبِ وحدَه مرتبةٌ مستقلَّةٌ؟ ذلك لأنَّ مَن صام قلبُه صامتْ سائرُ جوارحِه وصام جسدُه، فصومُ القلبِ واجدٌ لكلا المرتبتينِ وزيادةٌ، ولذلك هو أعلى مراتبِ الصومِ، وهذه المرتبةُ لا يصلُ إليها الصائمُ إلا بعد أنْ يتخطَّى المرتبتينِ بمراحلِهمِا.
فما معنى صومِ القلبِ؟
صومُ القلبِ بحسبِ ما أفادتْه الرواياتُ الشريفةُ يعني صونَ القلبِ عن التفكُّر في الحرامِ، فصومُ الجوارحِ هو أنْ لا تفعلَ الحرامَ، وأمَّا صومُ القلبِ فهو أن لا تُفكِّرَ في فعلِ الحرامِ، فلا تَخطُرُ في قلبِك الرغبةُ في مقارفةِ الحرامِ.
صومُ القلبِ يعني الاستيحاشَ من الذنبِ والنفورَ منه، فكما ينفرُ أحدُنا من الجِيفةِ النتنةِ، فإنَّه ينفرُ من الذنبِ، وكما يهربُ أحدُنا من السبُعِ الضاري فإنَّ الصائمَ بمرتبةِ صومِ القلبِ يهربُ من الذنب، ويَخافُ منه كما يَخافُ أحدُنا من الولوجِ في الحريقِ.
وذلك هو معنى التقوى والتي هي الغايةُ القُصوى من الأمرِ بالصومِ كما أفاد ذلك قولُه تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(13) فالغايةُ من تشريعِ الصومِ هو تحصيلُ التقوى، وليس كلُّ صائمٍ يحظى بهذه الغايةِ، لذلك قالَ اللهُ تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
وكذلك فإنَّ من معاني صومِ القلبِ أو من مراتبِه تطهيرَه من الأحقادِ والأضغانِ والكِبرِ والحسدِ والعجبِ والأنانيَّةِ ومطلقِ الآثامِ والأمراضِ القلبيَّةِ.
الشيخ محمد صنقور
----------------------
1- سورة البقرة / 183.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 24 ص 389.
3- عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله): ما من صائم يحضر قوما يطعمون إلا سبحت أعضاؤه، وكانت صلاة الملائكة عليه، وكانت صلاتهم له استغفارا. الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 683
4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 10 ص 313.
5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 90 ص 360.
6- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 645.
7- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 8 ص 508.
8- دعائم الإسلام -القاضي النعمان المغربي- ج 1 ص 268.
9- الصحيفة السجادية (ابطحي) -الإمام زين العابدين (ع)- ص 211.
10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 93 ص 293.
11- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج 4 ص 194.
12- "صوم القلب خير من صيام اللسان و صوم اللسان خير من صيام البطن" عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 305.
13- سورة البقرة/183.
14- سورة النصر.