جاءت أحداث السابع من أكتوبر لتذكر العالم بأن مسألة الأمن ستبقى حاضرة بقوة في أي نقاش يتعلق بمشاريع الطاقة في "إسرائيل"، وأن أيَّ اتفاقيات لترسيم الحدود أو لتصدير الغاز بالشراكة مع دول إقليمية ودولية ستبقى أمام تأثير محدود إزاء حقيقة الحالة الأمنية القابلة للاختراق.
منذ اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، كان لدولة الاحتلال نصيب كبير من الاحتياطيات المكتشفة والتي تركزت في عدد من الحقول البحرية مثل: ليفيثيان، وتمار، وكريش وغيرها. وقد قامت السياسة الإسرائيلية المتعلقة بالغاز على فكرتين، أولهما التركيز على الإنتاج لسد الاحتياج المحلي والتحرر من الاعتمادية الكبيرة على الغاز المستورد من مصر، وقد حصل هذا فعلا عام 2013 عندما بدأ الإنتاج في حقل تمار.
دولة الاحتلال تنظر للغاز كسلعة سياسية تهدف من خلالها لتحقيق أغراض سياسية وأمنية بالدرجة الأولى وليست اقتصادية، ويظهر هذا بوضوح من خلال مشاريع ومباحثات الغاز الإسرائيلية خلال العقد الأخير التي فتحت قنوات حوار مع جميع دول شرق المتوسط تقريبا
لكن عمليات تطوير وتشغيل حقول الغاز تسري وفق معادلات اقتصادية معقدة، إذ تتطلب أن يكون الإنتاج بحجم معقول ويُباع بأسعار معقولة، حتى يتم تغطية التكاليف وتحقيق هامش ربح يجذب شركات الطاقة الأجنبية للاستثمار، وكانت هذه إحدى التحديات الكبيرة أمام دولة الاحتلال التي احتاجت إلى أسواق تصدير في محيط عربي لا ينظر بحفاوة لاستهلاك الغاز الإسرائيلي، الذي هو في الحقيقة غاز فلسطيني مسروق بفعل الاحتلال وقوة الأمر الواقع.
استطاعت الضغوط الأميركية إقناع جيران دولة الاحتلال بإيجاد أسواق تصريف للغاز الإسرائيلي، فتم إبرام صفقات طويلة الأمد مع الأردن ومصر تمتد ما بين 10-15 عاما لشراء الغاز من إسرائيل، بقيمة 15 مليار دولار لكل صفقة، وبالتالي توفرت السيولة وعقود التصدير الآجلة لتحريك عجلة الإنتاج، وفعلا بدأ ضخ الغاز إلى هذين البلدين أوائل عام 2020 تتويجا لجهود الدبلوماسي الأميركي أموس هوكشتاين المولود لأبوين إسرائيليين، والذي زار الأردن 14 مرة لإبرام الصفقة وفقا لما نقلته مصادر صحفية إسرائيلية.
لكن إستراتيجية الغاز الإسرائيلية تطلعت إلى المزيد، فهي قائمة أيضا على مبدأ ثانٍ يتلخص باستخدام الطاقة كوسيلة للتطبيع والاندماج والهيمنة في المنطقة. فدولة الاحتلال تنظر للغاز كسلعة سياسية تهدف من خلالها لتحقيق أغراض سياسية وأمنية بالدرجة الأولى وليست اقتصادية، ويظهر هذا بوضوح من خلال مشاريع ومباحثات الغاز الإسرائيلية خلال العقد الأخير التي فتحت قنوات حوار مع جميع دول شرق المتوسط تقريبا، وأبرز هذه المشاريع خط أنابيب (إيست ميد) الذي نقل العلاقة مع اليونان وقبرص من البرود إلى الشراكة، وأصبح أداة ابتزاز لتركيا لتطويع سياستها الخارجية تجاه إسرائيل وفي المنطقة ككل.
في أواخر 2023 كانت إستراتيجية الغاز الإسرائيلية تحقق أعظم نجاحاتها على الإطلاق، فقد كانت تجني أهم المكاسب السياسية والأمنية من مشروع (إيست ميد) ومنتدى شرق المتوسط، فقد أبرمت العديد من الشراكات والاتفاقيات الدفاعية والأمنية مع دول أعضاء في المنتدى، قامت بترسيم الحدود البحرية مع لبنان في صفقة مربحة ضمنت لها بدأ عملياتها في حقل كاريش المتنازع عليه بعد يوم واحد فقط من التوقيع، ورهنت قطاع توليد الكهرباء في الأردن للغاز الإسرائيلي بنسبة 80٪ ولمدة 10 سنوات، وزادت صادرات الغاز إلى مصر بنسبة 30٪، حققت شراكات مع شركة الطاقة الإماراتية مبادلة وعملاق الطاقة أدنوك، وفعلت مفاوضات الغاز مع تركيا لإنشاء خط أنابيب يربط البلدين بهدف التصدير إلى تركيا وأوروبا، وبدأت أيضا نقاشا داخليا لبناء محطة إسالة عائمة قرب حقل ليفيثيان بعد حل النزاع مع لبنان بموافقة ضمنية من حزب الله، بعد أن كانت هذه الفكرة مرفوضة داخليا لأسباب أمنية.
بدا كل ذلك وكأنه قمة النجاح لدبلوماسية الغاز الإسرائيلية، فقد عملت لعقد كامل على ترويج نفسها كمصدر آمن ومضمون للغاز نحو الأسواق الاقليمية والأوروبية، وتهافتت دول الجوار للتنسيق معها ليس فقط اقتصاديا بل في مجالي السياسة والأمن لجني الثمار الاقتصادية والجيوسياسية لغاز شرق المتوسط، ولتبسيط الفكرة يكفي النظر إلى الاستماتة التركية لاستبدال خط إيست ميد بخط أنابيب تركي إسرائيلي حتى خلال فترات القطيعة الدبلوماسية بين الجانبين، وكذلك التنسيق الإماراتي-الإسرائيلي في قطاع الغاز الذي سبق اتفاقيات السلام بينهما.
يمكن القول بأن شرط الأمن والاستقرار يأتي في المرتبة الأولى من سلسلة ظروف تبحث فيها الدول والشركات الكبرى المنتجة للغاز قبل أن تأخذ قرارات الاستثمار في أية بقعة في العالم، ومن الواضح أن هذا الشرط قد تم الإخلال به بطريقة يصعب ترميمها، وستظهر تداعيات ذلك في تعثر مشاريع الإنتاج والتصدير التي تشارك بها دولة الاحتلال.
وعند قمة الإنجاز هذه، جاءت هجمات السابع من أكتوبر كجرس إنذار صارخ بدد أحلام سرائيل وشركائها في ملف الغاز، وذكرتهم بأن تحدي الأمن سيبقى معضلة لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن مشاريع الطاقة الإسرائيلية. فهذه الأحداث التي تعد أكبر اختراق عسكري وأمني لدولة الاحتلال منذ تأسيسها، ثم ما أعقبته من حرب متواصلة لم تهدأ منذ ما يزيد على الثلاثة شهور، وما شكلته من خطر للانزلاق نحو حرب اقليمية، كشفت أن الأراضي والشواطئ الإسرائيلية وكذلك منصات الغاز ليست محصنة أمام الاختراقات الأمنية سواء من جنوب فلسطين المحتلة أو شمالها.
ويمكن تلخيص خسارة قطاع الغاز الإسرائيلي في بُعدين: الأول على المدى القريب. حيث أدى الاختراق الفلسطيني البحري والبري وعبر الجو إلى قرار بإغلاق منصة الإنتاج في حقل تمار لمدة 40 يوما، وهو الحقل المخصص لتزويد السوق المحلي، وحتى لا يتأثر هذا السوق تم تعويض النقص فيه من حقول أخرى مخصصة للتصدير مما أدى لتعليق الصادرات الإسرائيلية إلى مصر ثم خفضها لأكثر من شهر. وهذا ضرب في مصداقية أمان صادرات الغاز وكشف أنها مهددة بالانقطاع مع أي خطر أمني.
أما على المدى المتوسط، فيمكن القول بأن شرط الأمن والاستقرار يأتي في المرتبة الأولى من سلسلة ظروف تبحث فيها الدول والشركات الكبرى المنتجة للغاز قبل أن تأخذ قرارات الاستثمار في أية بقعة في العالم، ومن الواضح أن هذا الشرط قد تم الإخلال به بطريقة يصعب ترميمها، وستظهر تداعيات ذلك في تعثر مشاريع الإنتاج والتصدير التي تشارك بها دولة الاحتلال. فمنذ اكتشاف الغاز قبل عقدين من الزمن، كانت هذه هي المرة الأولى التي تدور فيها مواجهة عسكرية داخل الحدود التي تعترف بها الأمم المتحدة لإسرائيل، وقد ترافق القتال مع اختراقات أمنية ومعلوماتية لم تتكشف تفاصيلها بعد، وهذا يضرب في صميم فكرة الأمن اللازم كشرط مسبق لجذب استثمارات الغاز المكلفة وذات الأجل الطويل كمنصات الإنتاج والإسالة وخطوط الأنابيب، ويعيد إلى الأذهان إمكانية تكرار سيناريو استهداف خطوط أنابيب العريش-عسقلان بعد الثورة المصرية.
قد يبدو من المبكر الحديث الدقيق عن الخسائر الإستراتيجية التي منيت بها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، إذ ما زالت المعركة مستمرة ومفتوحة على احتمالات مختلفة، لكن الثابت أن رأس المال المستثمر في مشاريع الغاز هو من أكثر رؤوس الأموال خوفا، وأن دبلوماسية الغاز الإسرائيلية التي روجت لإسرائيل كأكثر أماكن شرق المتوسط استقرارا وأمنا قد بنيت على ورق من الدومينو، وقد وجهت لها هجمات السابع من أكتوبر ضربة رشيقة وساحقة.
*أماني السنوار- الجزيرة