هذا التوجه جاء لتحقيق هدف ردعي يعتقد الجيش أن في إمكانه تحقيقه، في ظل عدم القدرة على تحقيق الأهداف الكبيرة التي وُضعت للحرب.
والحقيقة، التي نراها على الأرض داخل قطاع غزة، أن "الجيش" الإسرائيلي فشل في تحقيق إنجاز عسكري ضد المقاومة، سواء في إنهائها، أو الوصول إلى قادتها، أو تحرير الأسرى. وتلقّى ضربات كبيرة لا مثيل لها في تاريخه العسكري، إذ كان يواجه مقاومة شبحية لا يستطيع أن يصل إليها بعد وقوعه في حرب المدن، ولهذا اعتمد سياسة التدمير للمباني والمناطق السكنية، عبر استخدام الآلة العسكرية، سواء كان عبر الجو، أو البحر، أو من خلال القصف المدفعي المكثّف.
قوات الاحتلال، على مدار 80 يوماً، حاولت التكيف مع الميدان العسكري في قطاع غزة، لكنها وجدت نفسها أمام معارك كبيرة مع كل بيت وكل مبنى. فمع كل تقدم لها داخل القطاع، كانت تتلقى ضربات كبيرة من المقاومة، وظهرت خشيتها من كل مبنى وشارع تصل إليه.
بالنظر إلى الأماكن التي دخلها "الجيش" الإسرائيلي وخرج منها، لا تكاد تجد أي مبنى لم يتعرض لقصف يخلّف دماراً كلياً أو جزئياً، ناهيك بأعمال التجريف والتدمير، اللذين تقوم بهما الجرافات ضد البنى التحتية والمرافق العامة.
أمام هذا المشهد، يظهر جلياً أن "الجيش" الإسرائيلي، في ظل حالة العجز التي مُنِي بها، تحوّل إلى تنفيذ سياسة همجية للتدمير داخل قطاع غزة للوصول إلى هدفه الردعي، والذي تمحور على جعل غزة غير قابلة للحياة، بحيث تكون نموذجا مستقبلياً عن أي جهة تحاول المساس بـ"دولة" الاحتلال. وظهر الاعتراف الإسرائيلي بهذه السياسة جلياً، على لسان كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يوآف غالانت، اللذين لم يكُفّا عن تهديد العاصمة اللبنانية بيروت بأن يصبح الدمار فيها مشابهاً لما حدث في قطاع غزة، في ظل استمرار تفاعل المقاومة من جنوبي لبنان.
دمر "الجيش" الإسرائيلي، حتى الوقت الحالي، أكثر من 70% من المباني والمنشآت والبنى التحتية داخل قطاع غزة، بما في ذلك المياه والكهرباء والمؤسسات، التي تقدّم الخدمات الإنسانية والصحية إلى المواطنين. وهذا الأمر يريد من خلاله أن يزرع في قناعة الفلسطينيين أن المقاومة وبال كبير، وتجلب الدمار، ظناً منه أن هذا الفعل الذي يستهدف الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية سيشكل ردعاً للمقاومة وقيادتها، وسيشكل خوفاً داخلياً يردع أيّ تفكير في هجوم مستقبلي على "دولة" الاحتلال.
واعترف قادة في "جيش" الاحتلال بأنهم تعمَّدوا تدمير غزة من دون أسباب عسكرية محدَّدة، إذ نقلت الإذاعة الإسرائيلية، عن المقدم أورين شندلر، قائد الكتيبة الـ74 في اللواء الـ188، قوله: "عليكم التأكد من أنه أينما وُجد الجيش الإسرائيلي في غزة، يوجد دمار، وأن كتيبتي أيضاً كانت مسؤولة عن إحداث دمار في غزة".
هذا الدمار لا يتباين عما كان يفعله الأميركيون في أثناء غزوهم فيتنام في ستينيات القرن الماضي، وكانوا يتعمدون وقتها نسف مدن وقرى بصورة كاملة، كنوع من العقاب وإظهار الغطرسة والقوة، من أجل ردع الشعب الفيتنامي. والمشهد ذاته يتكرر اليوم على يد ابنة أميركا، "دولة" الاحتلال، التي تدرك أنها تُستنزف، وستصل إلى الهزيمة، كما حدث لقوات واشنطن.
من الناحية الاستراتيجية، وضعت "دولة" الاحتلال الفلسطينيين أمام مفترق طرق في غاية الخطورة بشأن مصيرهم، وحيّدت الأطراف التي كانت تنادي بالسلام والتعايش مع الاحتلال، وبات اليوم التفكير، لدى كل الفلسطينيين، في كيفية مواجهة هذا الاحتلال والتخلص منه بصورة كاملة ونهائية. واليوم، الفلسطيني في بعده الشخصي وفي بيئته الخاصة، سواء كان ضمن المقاومة أو خارجها، ناقم على الاحتلال ويفكّر في المواجهة، فلم يعد هناك أشخاص "محايدون" داخل المجتمع الفلسطيني.
الفعل الاسرائيلي الهمجي في قطاع غزة أعطى صورة راسخة عن عجز الاحتلال، بعد وصوله إلى أقصى مدى توحشه. وهذا الأمر جعل الفلسطينيين يعرفون قدرة عدوهم، ويدخلون مرحلة مواجهة، ولا يوجد لديهم شيء يخسرونه أو يفكرون فيه بديلا من إنهاء الاحتلال.
الهمجية والتدمير كسرا نظرية العصا والجزرة في التعامل مع الفلسطينيين، والتي لطالما كان يطرحها اليسار الإسرائيلي وكثير من الأطراف الأمنية ومن المفكرين داخل "دولة" الاحتلال. وتبعات هذا الأمر الاستراتيجية خطيرة في المستقبل القريب والمستقبل البعيد على أمن الاحتلال وبقائه، وهذا الفعل الإسرائيلي سيكون دافعاً إلى عمليات جديدة، مثل طوفان الأقصى، في فترة أقرب مما يتخيل الاحتلال.
في المجمل، إن الاحتلال في حالة تخبط منذ بداية الحرب، وكل خياراته تقوده إلى الهزيمة. وحتى استخدام القوة العسكرية المفرطة لم يحقق له النصر، وأوقعه في مشكلة أخلاقية عالمية، وبات محل محاكمة دولية، على مستوى "الدولة" والقيادة والضباط والجنود.
أيمن الرفاتي - موقع الميادين