تحت عنوان: "الولايات المتحدة الأميركية أمام تحدي تعدد جبهات الحروب"، كتبت إليز فانسون في صحيفة "لو موند" الفرنسية مقالاً تناولت فيه الصراعات التي تواجه الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط والتوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ما يحتم على واشنطن حشد قواتها على جميع الجبهات ويؤدي بالتالي إلى تفاقم نقاط الضعف في أجهزتها العسكرية في فترة سياسية دقيقة.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
إنه تغيير في الفعل لم يمر من دون أن يلاحظه أحد، وهو تطور دلالي أظهره جو بايدن. ففي 12 كانون الأول/ديسمبر 2023، في غرفة مغطاة بألواح خشبية داكنة في البيت الأبيض، عقد الرئيس الأميركي مؤتمراً صحفياً إلى جانب نظيره الأوكراني. يقترب الشتاء، والقوات منهكة، ويحتاج فولوديمير زيلينسكي بالتأكيد إلى تمديد جديد للمساعدات العسكرية لمحاربة روسيا.
وفي حين أكد بايدن بانتظام أن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا سيستمر "طالما استغرق الأمر ذلك"، فقد عدّل هذه المرة تصريحاته: فالمساعدات العسكرية في كييف ستستمر "بقدر ما نستطيع". وبعيداً عن الشكوك التي تثيرها هذه الصيغة، قدم بايدن في ذلك اليوم، وفقاً لخبراء عسكريين، نوعاً من الاعتراف: في مواجهة الصراعات الكبرى التي تتضاعف في أوروبا والشرق الأوسط وهما المنطقتان اللتان كانت واشنطن تأمل حتى ذلك الحين في فك ارتباطها بهما للتركيز على محاربة التوسع الصيني، يبدو أن الولايات المتحدة وصلت إلى حدود قدرتها على العمل.
وبعد يومين من هذا الإعلان، واجهت إدارة بايدن وضعاً غير مسبوق: الفيتو الذي فرضه الكونغرس على الإنفاق الدفاعي الذي أوصى به لعام 2024. فالبيت الأبيض لم يحصل على مبلغ 61 مليار دولار (55.6 مليار يورو) الذي طالب به لكييف، ولا على الـ 14 مليار دولار التي كانت مخصصة لتل أبيب في الحرب ضد حماس. ولم يتم إطلاق سوى الدفعة الأخيرة من المساعدات المخطط لها لأوكرانيا، في ميزانية عام 2023. وعلى الرغم من أن التوصل إلى حل وسط لا يزال ممكناً، فإن كل شهر يمر يجعل من الصعب على حلفاء أميركا الأوكرانيين والإسرائيليين التخطيط لعملياتهم العسكرية ويثير الشكوك حول قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على دورها في حل الأزمات الدولية.
يقول مارك كانشيان، الخبير في خبايا البنتاغون ومدير الأبحاث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، إن ثمة "أزمة حقيقية في استراتيجية الدفاع الأميركية". هذه الملاحظة يمكن أن تفسرها ظاهرتان على الساحة الأميركية: الخلافات حول السياسة الداخلية وتلك المتزايدة حول التوجيهات التي يجب إعطاؤها للجهاز العسكري.
لطالما وضعت قضايا الدفاع في الكونغرس تيارين في مواجهة بعضهما البعض. من ناحية، يعتبر الانعزاليون، وأغلبهم اليوم من الحزب الجمهوري، أن الولايات المتحدة يجب أن تهتم بحماية أراضيها بدلاً من التدخل في الشؤون العالمية. ومن ناحية أخرى، يعتقد المؤيدون لتدخل أميركا في الشؤون العالمية أن القيم المؤسِسة للأمة الأميركية تفرض واجب القيادة في الخارج. حتى الآن، تمكن الكونغرس من تخطي هذه الخلافات لتأييد مطالب الإدارة في الشؤون العسكرية.
ووجدت إدارة بايدن الديمقراطية نفسها في مأزق عندما أصبح الجمهوريون أغلبية في مجلس النواب في كانون الثاني/يناير 2023. وأدى ظهور أعضاء منتخبين متطرفين يربطون مساعدتهم لأوكرانيا و"إسرائيل" بتشديد سياسة الولايات المتحدة تجاه الهجرة إلى تجميد مشروع قانون الإنفاق الدفاعي لشهر كانون الأول/ديسمبر. وتبنى الكونغرس ميزانية عسكرية ضخمة تزيد عن 886 مليار دولار (810 مليارات يورو، ما يعادل أكثر من 17 مرة ميزانية الدفاع الفرنسية للعام الحالي)، لكن هذه الميزانية مخصصة أساساً لدعم القوات الحالية ودعم سباق التسلح مع الصين من أجل ردع مطالباتها بشأن تايوان.
ويقول فيليب غروس، المتخصص في السياسة الدفاعية الأميركية في مؤسسة البحوث الاستراتيجية: "المطلوب من واشنطن أن تكون موجودة على عدد من الجبهات أكثر مما تريد هي نفسها". منذ الحرب العالمية الثانية، عندما اضطرت الولايات المتحدة إلى محاربة كل من ألمانيا النازية في أوروبا وإمبراطورية اليابان في المحيط الهادئ، لم يغفل المحللون الاستراتيجيون في البنتاغون أبداً عن إمكانية اضطرارهم إلى إدارة كثير من الصراعات في آن واحد. ومع ذلك، لم يتخيلوا سوى نشوب حربين رئيستين في آن واحد. ومنذ ذلك الوقت، قامت نظرية "الحربين" هذه بتنظيم الجهاز العسكري الأميركي على هذا الأساس.
في ظل رئاسة ريتشارد نيكسون (1969-1974)، كان الأمر يتعلق بالاستعداد لخوض حرب رئيسة وصراع أقل اتساعاً. وفي ظل إدارة كلينتون (1993-2001)، في أعقاب غزو العراق للكويت، رغبت وزارة الدفاع في أن يكون الجيش مجهزاً للرد على سيناريو صراع جديد محتمل في الخليج وهجوم كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية. وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، ركّز الجيش الأميركي اهتمامه على مقاومة العصيان ومكافحة الإرهاب في العراق وأفغانستان.
وظهرت حدود هذه النظرية من خلال "التحول" نحو المحيطين الهندي والهادئ، وهي الاستراتيجية التي أطلقها باراك أوباما (2009-2017) عام 2011. إن الاستثمارات اللازمة لمواجهة صعود الصين هائلة. ومن أجل استعادة بعض المساحة للمناورة، سحب بايدن بعيد انتخابه قواته من أفغانستان في آب/أغسطس 2021. خلال هذا العقد، بدأ البنتاغون يتخلى تدريجياً عن طموحه بالفوز في حربين في وقت واحد، ويعتمد على قدرته على الفوز بواحدة، مع الاعتماد على قوته الرادعة لاحتواء أخرى. تم تطبيق هذه الاستراتيجية خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، اعتباراً من 24 شباط/فبراير 2022 على أن المساعدات العسكرية المقدمة يجب أن تتيح هزيمة موسكو بشكل غير مباشر من خلال شريك موثوق ومتحمس، بينما تبقى جهود الردع مركزة على بكين.
البحرية.. مجال حساس
يقول رافائيل كوهين، مدير برنامج الإستراتيجية والعقيدة في مؤسسة "راند"، في تحليل نُشر في كانون الثاني/يناير 2023 على موقع "وور اون ذا روكس": "لكن الرياح الجيوسياسية تتغير". وأضاف: "تجمع بين خصوم أميركا (الصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا) علاقات وثيقة على المستوى العسكري أكثر من أي وقت مضى". ولمواجهة قوات كييف، تشتري موسكو الآن طائرات مسيرة من طهران وقذائف مدفعية من بيونغ يانغ بينما تكثّف التدريبات العسكرية مع بكين. وفي المقابل، ستوفر الصين طائرات مسيّرة للجماعات الموالية لإيران في الشرق الأوسط، وستشارك كوريا الشمالية تقنيتها الصاروخية مع إيران.
تتحقق توقعات تزايد الصراعات التي تشرك عدة خصوم للولايات المتحدة منذ الحرب بين "إسرائيل" وحركة حماس الفلسطينية، التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الاول 2023. بالنسبة لواشنطن، فإن التهديد الذي يلوح في الأفق لا يرتبط بشدة العنف في قطاع غزة بقدر ما يرتبط بخطر اندلاع الحرب في الشرق الأوسط، حيث تعد طهران لاعباً أساسياً. وبينما بدأ البنتاغون مرحلة الانسحاب العسكري من المنطقة، يبدو أنه مضطر إلى إعادة نشر القوات المسلحة.
يؤثر هذا الصراع الجديد أيضاً على البنتاغون في مجال حساس ألا وهو قواته البحرية التي تعتمد عليها استراتيجية التوجه نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى حد كبير. فمنذ نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2023، تم حشد أكثر من 15 ألف بحار أميركي في البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي من أجل تشكيل "فقاعة" وقائية حول الدولة اليهودية. في المجمل، أبحر نحو 20 سفينة بما في ذلك حاملتا طائرات، قبالة الساحل من دون احتساب الغواصات المرافقة.
وتعمل هذه القوات البحرية تحت ضغط الحوثيين اليمنيين. ففي حين يكلف أصغر صاروخ يتم إطلاقه لاعتراض طائرة مسيرة تابعة للحوثيين ما بين 1.7 و4.3 مليون دولار لكل صاروخ، وفقاً لمعهد "كوينسي"، يحاول بايدن حشد حلفائه، الذين ليسوا في عجلة من أمرهم للانخراط في مسرح عمليات محفوف بالمخاطر أيضاً. في ظل هذه الظروف، تم إنشاء تحالف مناهض للحوثيين في 19 كانون الأول/ديسمبر 2023، تحت اسم عملية "حارس الازدهار" التي لا تزال تفاصيلها غامضة. ويحلل كزافييه فافاسور، رئيس تحرير مجلة "نافال نيوز" الفرنسية قائلاً: "لا يمكن للأميركيين أن يحافظوا على هذا الوضع إلى أجل غير مسمى".
"على البنتاغون أن يختار"
إن هذا التعدد في الجبهات يشكك بعمق في تنظيم الجيش الأميركي بدءاً من إدارة مخزوناته إلى الحفاظ على قواته، بما في ذلك أولويات صناعته الدفاعية. وبحسب مايكل نايبيرغ، أستاذ التاريخ العسكري في الكلية الحربية للجيش الأميركي في بنسلفانيا، "تواجه الإدارة الأميركية مشكلتين تاريخيتين مرتبطتين بإرث عهد أوباما القاضي بالتوجه نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ ونهاية الحرب الباردة التي اتسمت بإعادة هيكلة كبيرة لقطاع التسلح في الولايات المتحدة".
ورغم أن واشنطن بقيت الدولة الرائدة في تصدير الأسلحة على مستوى العالم بعد تفكك الكتلة السوفياتية، إلا أن قطاعها الاقتصادي الدفاعي انكمش بشكل حاد، فبعد أن كان يشكل 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990، أصبح يشكل 3% في نهاية العقد. ومن بين الشركات الخمسين الكبرى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، لم يتبق اليوم سوى 5 شركات هي لوكهيد مارتن، ونورثروب غرومان، وشركة آر تي إكس، وجنرال ديناميكس، وبوينغ. وكانت نتيجة هذه الاحتكارات هي انفجار في التكاليف ومهل التصنيع. ويضيف السيد نايبيرغ: "المناقشة الحالية تدور حول كيفية تحديد الأولويات". ويتعين على البنتاغون أن يختار: "الاستثمار في التكنولوجيات العسكرية الجديدة لمصلحته الخاصة، ولا سيما لردع الصين عن غزو تايوان، أو لدعم حلفائه سواء تايوان أو إسرائيل أو أوكرانيا أو آخرين".
وفيما يتعلق بأوكرانيا، فقد اختارت الولايات المتحدة حتى الآن عدم استنزاف مخزونها بالكامل. فمنذ بداية الحرب، وبمقارنة الأرقام التي جمعها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وأرقام عمليات نقل الأسلحة التي نشرها البيت الأبيض، تم إرسال 31 دبابة من طراز أبرامز، من مخزون 2645 قطعة، وما يقرب من 200 دبابة برادلي وهي نوع من مركبات المشاة المدرعة، من أصل 1745 في المجموع. وفيما يتعلق بالمدفعية، تبرع الجيش الأميركي بنحو 150 مدفعاً من طراز أم 777 ونحو 30 مدفعاً ذاتياً من طراز أم 109 من أصل 1700 مدفع عيار 155 ملم من دون احتساب 800 موجودة في المخزون.
وفي هذا السياق، يتابع فيليب غروس من مؤسسة البحوث الاستراتيجية: "بالمقارنة مع الأوروبيين، تقدم الولايات المتحدة جهداً أكبر بكثير من حيث الكمية الإجمالية، ولكن ليس بالنسب. يمكنهم تقديم المساعدة بشكل أكبر، فلديهم احتياطيات". وأضاف:"أسباب هذا التقييد غامضة. ويتابع الباحث أن التركيز على الصين لا يمكن أن يكون الدافع الوحيد، لأن القدرات المطلوبة في هذين المسرحين مختلفة للغاية. وتعرب الإدارة الأميركية بانتظام عن مخاوفها من مخاطر التصعيد مع روسيا. ولكن من الممكن أن تكون لديها شكوك حول القدرة الحقيقية للأوكرانيين على استعادة كامل أراضيهم. على أي حال، لا يبدو أن الأميركيين يريدون المخاطرة بخطط المشاركة الخاصة بهم".
وعندما يتعلق الأمر بتايوان، يبدو الأمر مماثلاً. فالأخيرة تنتظر تسلم أسلحة أميركية بقيمة 19 مليار دولار. ويرتبط هذا التأخير جزئياً بازدحام صناعة الدفاع الأميركية، وبالجهود المبذولة في أوكرانيا، ولكنه يرتبط أيضاً برغبة الولايات المتحدة في عدم تقويض الصين. ومع ذلك، قررت واشنطن، في آب/أغسطس 2023، منح تايبيه مساعدة مالية رمزية بقيمة 80 مليون دولار، مصدرها التمويل العسكري الأجنبي، وهو برنامج كان حتى ذلك الحين مخصصاً للدول ذات السيادة فقط.
استثمارات ضخمة
إذا كان الجيش الأميركي يُرى من بعيد على أنه الأقوى في العالم، فإنه يواجه أيضاً نقاط ضعف تتفاقم بسبب التوترات الحالية. في هذا السياق، قال براين كلارك الباحث المساعد في معهد هدسون: "في العقود الأخيرة، استثمر البنتاغون بكثافة في التقنيات المتطورة. فقد نتج عن بناء القوارب والطائرات الجديدة تكاليف هائلة في البنية التحتية ما شكل تحدياً حقيقياً للتكامل مع بقية القدرات العسكرية التقليدية". ويتعرض هذا النموذج المكلف لانتقادات منتظمة من قِبَل مكتب محاسبة الحكومة (GAO)، المعادل الأميركي لمحكمة مراجعي الحسابات.
وهذا التحدي يصبح قاسياً بشكل خاص داخل القوات الجوية الأميركية. وفي هذا السياق، يقول جان كريستوف نويل، الباحث المشارك في مركز الدراسات الأمنية بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ورئيس تحرير مجلة "فورتكس": "لدى القوات الجوية الأميركية [325 ألف طيار] وهي تملك الأسلحة الأكثر تقدماً في العالم، مع كثير من أجهزة التخفي". لكن خوذة طيار أف 35 [أحدث طائرة مقاتلة في الأسطول الأميركي] تكلف وحدها ما يقرب من 400 ألف يورو. ومع ذلك، من دون هذه الخوذة التي تنقل البيانات القتالية، لا يستطيع الطيار الإقلاع. كما أن القوات الجوية الأميركية، ذات النفوذ الكبير داخل الجيش، متمسكة أيضاً بفكرة القدرة على الانتشار في أي مكان في وقت قصير جداً". وتابع السيد نويل: "إنها لا تريد بالضرورة التخلي عن هذا البعد العالمي المقترن بهويتها تقريباً".
لكن هذه الطموحات تتعارض مع الاستثمارات الهائلة التي يرصدها البنتاغون منذ عام 2017 لتحديث برنامج ردعه النووي. وتم تأجيل هذا المشروع لفترة طويلة لدعم الحرب ضد الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وتقدر تكلفته بأكثر من 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2046، وينص على اقتناء صواريخ "سنتينل" الباليستية العابرة للقارات، وغواصات الصواريخ الباليستية النووية من طراز كولومبيا لتحل محل تلك من طراز أوهايو، أو حتى بناء قاذفات القنابل الشبح "بي 21 رايدر" التي تم تقديمها كأول طائرة من الجيل السادس في فئتها.
ويثير المسار المالي لهذا البرنامج مخاوف، لكن الإدارة الأميركية تقدمه على أنه ضروري. أولاً، لأن معاهدة "نيو ستارت" لنزع السلاح، التي من المفترض أن تحكم السيطرة على الترسانات النووية بين روسيا والولايات المتحدة، تنتهي في عام 2026. ثانياً، لأن الصين تكتسب القوة في هذا المجال: وفقاً للبنتاغون، تسعى بكين إلى الحصول على الأسلحة النووية. نفس عدد الرؤوس الحربية التي تمتلكها موسكو وواشنطن بحلول عام 2035، أو نحو 1500 رأس حربي.
ومع ذلك، يمكن لهذه الاستثمارات المكلفة جداً أن تحد من الموارد المخصصة لتدريب القوات وصيانة المعدات. وهي مشكلة تواجهها جميع الجيوش، ولكنها تأخذ أبعاداً مثيرة للقلق في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، قال مكتب محاسبة الحكومة في أيلول/سبتمبر 2023 أن معدل قدرة طائرات أف 35 على تنفيذ المهمة وهو النسبة المئوية لإجمالي الوقت الذي يمكن للطائرة أن تطير فيه وتكمل مهمة واحدة على الأقل، نحو 55% في آذار/مارس 2023، وهو أقل بكثير من الأهداف المخطط لها. وبحسب ما أشارت إليه الهيئة الفدرالية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 هناك نقص في خزانات التزود بالوقود أثناء الطيران لنفس طائرات أف 35، وبالتالي، لم تحقق أهدافها السنوية بين عامي 2011 و2021.
ويبقى أن الخاسر الأكبر بسبب الانحرافات الاستراتيجية الكبيرة للإدارة الأميركية هي البحرية الأميركية. ويوضح بريان كلارك من معهد هدسون: " ما يقرب من 40% من الأسطول الأميركي لم يتم تعبئته للإبحار". ومع عمليات انتشار تطول، تتآكل السفن وتتعرض للضرر وتبحر مع بحارة مرهقين، وفقاً لتقارير متعددة. ويمكن لأحواض بناء السفن، التي انخفض عددها بعد الحرب الباردة، بناء مدمرتين سنوياً، وما بين غواصة وغواصتين، فضلاً عن حاملة طائرات كل 6 سنوات وهي وتيرة تسمح بإنتاج هياكل عالية التقنية، لكنها غير كافية في مواجهة نمو البحرية الصينية، التي تجاوزت، منذ عام 2020، إلى حد كبير البحرية الأميركية من حيث عدد الهياكل الذي بلغ 340 هيكلاً مقارنة بـ 300 للبحرية الأميركية.
أزمة ثقة
ازدادت الضغوط على صناعة الدفاع البحري الأميركية مع إضفاء الطابع الرسمي، في أيلول/سبتمبر 2021، على اتفاقية التعاون العسكري الثلاثي "أوكوس" بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وسوف تضطر كانبيرا إلى الانتظار حتى عام 2032 لتتسلم أول غواصة، والتي سيتم أخذها من مخزون البحرية الأميركية، والبريطانيون هم الذين سيبنون، بحلول عام 2040 في أفضل الأحوال، خمساً من الغواصات الثماني التي تعمل بالطاقة النووية والتي كانت البلاد راهنت عليها متخلية عن عقدها مع المجموعة البحرية الفرنسية لشراء 12 غواصة تقليدية. واضطرت أستراليا أخيراً إلى اتخاذ قرار، في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2023، بإضافة نحو ثلاثة مليارات دولار لدعم الجهود الصناعية الأميركية.
كذلك، يواجه الجيش الأميركي صعوبات متزايدة في التجنيد. فبحلول عام 2024، سينخفض عدد قواته الموجودة في الخدمة إلى أقل من 1.3 مليون. وهذا هو أدنى مستوى له منذ عام 1940، قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. وضاعف القائمون على التجنيد الحوافز لتحقيق أهدافهم فقدموا المكافآت بمختلف أنواعها والترقيات ورفعوا الحد العمري المطلوب... ويعزى نقص المرشحين جزئياً إلى انخفاض المستوى التعليمي بين الشباب الأميركيين ومشكلة السمنة فضلاً عن سوق العمل التنافسي إلى حد كبير.
علاوة على ذلك، فإن الثقة في المؤسسة العسكرية هي في أدنى مستوياتها. ففي تموز/يوليو 2023، كشف استطلاع للرأي أجراه معهد "غالوب" أن 60% فقط من الأميركيين يقولون إنهم "واثقون جداً" بجيشهم، وهي عتبة قريبة من تلك التي كانت سائدة في أواخر التسعينيات. ويمكن تفسير هذه الاختلافات من خلال تطور العقليات أو الانسحاب الفوضوي للقوات من أفغانستان، ولكن أيضاً من خلال حقائق أكثر واقعية. فإذا كانت الظروف المعيشية للجنود الأميركيين المتمركزين في الخارج غالباً ما تكون موضع حسد، فإن الثكنات الجماعية على الأراضي الأميركية عادة ما تكون في حالة يرثى لها، على الرغم من المبالغ الفلكية في ميزانية الدفاع.
في هذا السياق، قال تقرير مكتب محاسبة الحكومة الصادر في أيلول/سبتمبر 2023: "لقد لاحظنا أن الثكنات في حالة سيئة، وبعضها يشكل مخاطر على السلامة، مثل فيضان مياه الصرف الصحي وأنظمة إطفاء الحرائق غير العاملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الثكنات لا تلبي متطلبات وزارة الدفاع من حيث الخصوصية أو وسائل الراحة"، مستنكراً ما يجري مع صور داعمة لما ورد في التقرير.
وبينما يتعين على الولايات المتحدة انتخاب رئيس جديد في تشرين الثاني/نوفمبر، فإن الجيش الأميركي يمر بـ"نقطة تحول"، كما يخلص مارك كانسيان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي يقول إنه "واثق إلى حد ما" بقدرات البنتاغون على التغلب على التوترات التي يواجهها. لكن، حتى لو رأى الباحث أن صعوداً محتملاً للجمهوريين في الكونغرس لن يؤدي بالضرورة إلى تفاقم الوضع، فإن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستكون بمثابة غوص في المجهول بالنسبة للجيش الأميركي.
*المصدر: الميادين