فقد أدى الغطاء العسكري والسياسي الذي ارتكز بشكل واضح على مرتكزات قيمية حاول الغرب التسويق لها من خلال محاولة تبرير السلوك الإسرائيلي، في مواجهة من يدّعي أنهم مجموعة من الإرهابيين الذين لا تنطبق عليهم المواصفات التي تؤهّلهم للاحتماء في ظل منظومة القيم العالمية المتمثّلة بالعدالة وحقوق الإنسان وصولاً إلى الحقّ بالعيش بسلام وكرامة، إلى بروز إشكالية تتعلّق بكيفية تخطّي الفشل الذي يعتري آليات تطبيق هذه القيم.
وحيث إنّ الواقع الدولي منذ بداية الحرب الباردة قد اتسم بتكريس سردية المواجهة بين محورين، حيث وسم الغرب الآخرين بصفة الشر، من دولة الشر أي الاتحاد السوفياتي إلى محور الشر أي الدول الثلاث التي أعلن عنها جورج بوش الابن في 29 كانون الثاني/يناير 2002، فإن ذلك السلوك لم يتغيّر حيث تحرص الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها الغرب، على إلصاق صفة الشر بأي مناهض لسياساتها.
وبالتالي، يمكن بسهولة تفسير الموقف الغربي من المقاومة في غزة ومن خلفها الشعب الفلسطيني المتمسّك بهذه المقاومة، إذ إنّ كلّ ما يحدث في القطاع من حرب إبادة جماعية قد يسهّل تبريره من خلال اعتباره سلوكاً عادياً يستهدف مكافحة الشر والإرهاب.
في هذا الإطار، تُظهر العودة إلى الماضي القريب بهدف مراجعة الخطاب الذي تبنّاه الغرب في حملة تضامنه مع الشعب الأوكراني ومقارنته مع خطابه الذي أوحى من خلاله بتوفّر الغطاء الأخلاقي للكيان الإسرائيلي في عدوانه على غزة، مدى استعلاء الغرب وادّعائه الحقّ في إضفاء صفة الشرعية على أي سلوك ومدى موافقته للقيم العالمية، بما يوحي بأن إسقاط هذه القيم على سلوك معيّن يرتبط بشكل عميق بمدى توافق هذا السلوك مع مصالحه.
وبالتالي، فإن ما تمّ تبرير تطبيقه على الحالة الأوكرانية واستدعى تضامناً غربياً مع الشعب والقيادة الأوكرانية لم يصح في حالة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
فتركيز الغرب على وصف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على أنها عدوان يستهدف المدنيين ويمسّ بقيم السلام والعدالة وحقوق الإنسان، بحيث استدعى تكاتف الجهود الدولية لردع روسيا والعمل على عزلها من خلال التهديد بفرض عقوبات على الدول التي ترفض إدانتها ولا تلتزم بمقاطعتها أو تصرّ على تقديم العون لها، قابله في غزة تبرير وتشريع للعمليات البرية والقصف الجوي الإسرائيلي الممنهج الذي يستهدف المدنيين والبنى التحتية المدنية بما يرقى لمستوى جريمة الإبادة الجماعية، مع علمه أن هذا السلوك المتحرّر من الالتزام باحترام أسس ومبادئ الشرعية الدولية لا يستهدف ردّ عدوان معيّن أو القيام بعمل متناسب مع فعل طوفان الأقصى، وإنما الانتقام من المقاومة عبر استهداف بيئتها الحاضنة.
في هذا الإطار، تبرز إشكالية أساسية حول الآليات التي أنيطت بها مهمة الحفاظ على القيم العالمية، حيث أدّى انعدام فاعليتها إلى إظهارها كآليات يرتبط تفعيلها بمدى الحاجة إليها في تحقيق مصالح القوى الكبرى. بالتوازي، تبرز إشكالية أخرى تتعلّق بالتسويق الغربي لتطابق القيم العالمية مع قيمه، بحيث ظهر الوعي الجماعي العالمي عاجزاً، خصوصاً في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عن الفصل أو التفريق بينهما. هنا، تجسّد فلسفة العولمة ونظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ هذه السردية، حيث أنهما قدّمتا الإطار النظري للعلاقات الدولية وفق المفهوم الغربي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وذلك وفق أسس انعدام أيّ إمكانية لظهور نموذج مختلف عن النموذج الغربي بالتوازي مع تحويله إلى معيار قيمي عالمي.
أما عن أسباب انعدام فاعلية هذه الآليات، فيمكن التقدير أن الدول الغربية قد اختصرت إمكانية تفعيلها بمدى موافقتها لرغباتها وتوجّهاتها، مقابل عدم وجود أي مسعى جدّي مناهض لهذا التوجّه، حيث أن القوى الراغبة في إرساء قواعد نظام دولي متعدد الأقطاب لم تقدّم رؤيتها انطلاقاً من أولوية الحاجة إلى تفعيل آليات القيم العالمية، وإنما اعتمدت في مسعاها على تبنّي آليات خاصة بها.
وعليه، فإذا تعمّقنا أكثر في النظرة الأمريكية لهذه الآليات الأممية وحاولنا مقارنتها برؤية الدول المناهضة للأحادية الأميركية، فلا أدلّ من رؤية المحافظين الأميركيين الجدد حيث يعتبرونها مجرد أداة تساعدهم في تحقيق استراتيجياتهم مقابل نظرة الصين وروسيا، كمثال للدول المناهضة للأحادية الأميركية، حيث يعتبرون أنها لا تُغني عن مراكمة القوة وتمتين التحالفات الدولية التي تكاد تكون السبيل الأكثر فاعلية لتحقيق السلام والعدالة العالمية.
في هذا الإطار، لم تتعدَّ الدعوات الأميركية والغربية المتكررة لتطوير عمل آليات الأمن الجماعي كردّ على الحرب في أوكرانيا إطار الظهور في صورة الطرف الملتزم بمبادئ القانون الدولي أمام الرأي العام الدولي، حيث إن الجهود الغربية لإدانة روسيا في مجلس الأمن والجمعية العامة قد ترافقت مع دعم عسكري ومالي ودبلوماسي أحادي وغير محدود لأوكرانيا التي صنّفوها كدولة تتعرّض لغزو روسي.
بالمقابل، كان عدم التزام الغرب بهذه المعايير واضحاً في غزة، حيث تمنع تلك الدول نفسها إدانة الكيان الإسرائيلي الذي يشنّ حرب إبادة ضد المدنيين، وتساعد في تحقيق أهداف الكيان التي أعلنها في بداية عدوانه، أي التهجير وتدمير مقوّمات الحياة في القطاع. وبالتالي، يمكن القول إنّ هذه الآليات لا تخضع للمعايير الأممية التي أقرّها القانون الدولي، وإنما تخضع لتوازنات الواقع الذي افترضت الرؤية الغربية في هذه المرحلة ضرورة تحييدها.
وعليه، بين التعاطي الغربي مع القضايا الدولية وفق منطق ازدواجية المعايير، وبين إصراره على تصنيف آليات القيم العالمية ضمن أدوات القوة التي يحكم إمكانية اللجوء إليها مدى تحقيقها لتوجّهات الغرب، تبرز ضرورة طرح الرؤية التي قدّم فعل طوفان الأقصى دليلاً على قدرتها في تخطّي عقم آليات القيم العالمية، وبما يساعد في إنجاز الوظيفة التي أُنشئت تلك الآليات من أجلها.
فحيث إنّ أيّ رؤية لتطوير فعالية هذه الآليات ستصطدم بواقع عدم إمكانية تعديل المواثيق الدولية الحاكمة نتيجة امتلاك الولايات المتحدة الأميركية وبعض حلفائها لحقّ النقض من جهة، والشعور بالتفوّق العسكري والاقتصادي والقيمي من جهة ثانية، بما يفقد الطرف المقابل أي إمكانية للضغط أو التأثير.
وحيث إن خيار الاعتراف بالضعف والعجز عن مقاومة القوى المتسلّطة لن يؤدي إلى الخضوع للضغوط والإملاءات على مستوى التوجّه السياسي، وإنما سيكون من الحتمي لهذا الخضوع أن ينسحب شعوراً بالإذلال وخضوعاً على مستوى القيم، برز خيار المواجهة مع هذه المنظومة من خلال تمسّك الجهة المُستهدَفة بخيار المقاومة، إذ إنّ هذا الخيار هو الوحيد الذي سيمكّن المقاومة في غزة من فرض تفاعل يستند إلى الندية، وبما يؤدي حتماً إلى فرض آليات جديدة تضمن لها المحافظة على حقّ شعبها في الاستفادة من القيم التي تُصنّف على أنها من أسس القانون الطبيعي أو الإلهي.
بقلم / وسام إسماعيل
المصدر : الميادين
ملاحظة : الآراء المذكورة في المقالة تعبّر عن رأي الكاتب