ولم يكتفِ بترويع البشر، حين قام بقتل وجرح ما يقارب 100 ألف شخص حتى الآن، نصفهم تقريباً من النساء والأطفال والخدج والشيوخ، إنما راح يعمل أدوات الهدم والتدمير في الحجر أيضاً، وبلغ مجموع ما قصفه من مبانٍ على رؤوس من فيها ما يزيد على ربع مليون مبنى. ولم يقتصر الأمر على المباني السكنية، إنما شمل أيضاً المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس ووكالات الأنباء.
أما من بقي من سكان القطاع على قيد الحياة، رجالاً كانوا أم نساء أم أطفالاً، أصحاء كانوا أم مرضى، فبعدما قطع جيش الكيان الصهيوني عن جميع السكان كل سبل الحياة من غذاء ومياه وكهرباء ووسائل اتصال، راح يطارد من بقي منهم على قيد الحياه ويجبرهم على الرحيل من شمال القطاع إلى وسطه، ثم من وسطه إلى جنوبه، إلى أن تم حشرهم في منطقة رفح المتاخمة للحدود مع مصر، والتي لا تتجاوز مساحتها عشرات الكيلومترات المربعة، في محاولة مكشوفة من جانبه لإفراغ القطاع من جميع سكانه بعد إجبارهم على النزوح إلى مصر.
من اللافت الانتباه هنا أن الجرائم الإسرائيلية لم تستثنِ أحداً على الإطلاق، فقد شملت كل المهن من دون تمييز، من الأطباء وطواقم التمريض والإسعاف وعمال الإنقاذ والصحافيين والإعلاميين، والموظفين الدوليين أيضاً، وخصوصاً العاملين منهم في وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
كان من الطبيعي أن تحرك هذه المأساة الإنسانية البشعة التي وصلت حد الإبادة الجماعية المتعمدة لشعب بأكمله كل دول العالم ممن بقي لديهم ذرة من ضمير حي.
دولة واحدة فقط في كل هذا الكون، هي الولايات المتحدة الأميركية، فقدت حاستها الإنسانية، وأصرت على تحدي المجتمع الدولي كله حتى النهاية، ولم تشغل نفسها بأي اعتبار آخر سوى الحرص على تقديم الحماية والغطاء السياسي اللازمين لتمكين جيش الاحتلال الإسرائيلي من إنجاز كل الأهداف التي يسعى لتحقيقها من وراء الحرب المعلنة على قطاع غزة، من دون أن تعبأ بانتهاكاته المتعمدة لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي العام، وخصوصاً ما يتصل منه بالقانون الإنساني الدولي الذي يكفل الحماية للمدنيين في أوقات الحرب.
وقد أشهرت الولايات المتحدة سلاح الفيتو أكثر من مرة للحيلولة دون صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار أو حتى لفرض هدن إنسانية مؤقتة تسمح بإنقاذ الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة من عمليات الإبادة الجماعية التي يتعرض لها.
وبعد نجاحها في إجهاض عدة محاولات بذلت على هذا الصعيد في مجلس الأمن، قررت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة نقل النقاش إلى الجمعية العامة التي انعقدت في جلسة طارئة لهذا الغرض.
وتمكنت في 27 تشرين الأول/ أكتوبر من اتخاذ قرار يدعو إلى "هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين في شتى أنحاء غزة فوراً وبدون عوائق"، صدر بأغلبية 120 صوتاً ومعارضة 14 صوتاً وامتناع 45 عضواً عن التصويت، وكانت الولايات المتحدة على رأس المعترضين عليه، رغم إدراكها أنه لن يكون له أي تأثير يذكر في ما يجري على أرض الواقع.
صحيح أن تزايد الضغط المعنوي على مجلس الأمن دفعها إلى الامتناع عن التصويت على مشروع قرار "يدعو إلى هدن إنسانية عاجلة ممتدة في جميع أنحاء القطاع والإفراج الفوري ومن دون شروط على كل الرهائن"، ما سمح بتبني قرار مجلس الأمن رقم 2712 الأمر بأغلبية 12 صوتاً، بعد امتناع كل من روسيا والمملكة المتحدة أيضاً، غير أنها كانت تدرك في الوقت نفسه أنه قرار ضعيف، لأنه لا يتضمن آليات تلزم "إسرائيل" بتنفيذه. لذا، راح الوضع الإنساني في قطاع غزة يزداد سوءاً من دون أن تحرك الولايات المتحدة ساكناً.
أمام هول الكارثة الإنسانية المحدقة بالمدنيين في قطاع غزة، وجد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى المادة 99 من الميثاق، وذلك لأول مرة منذ توليه منصبه، فوجه إلى رئيس مجلس الأمن اعترف فيها بأن الأمم المتحدة "عاجزة عن الوصول إلى المحتاجين هناك، فقد تقوّضت قدرة وكالاتها وشركائها في مجال العمل الإنساني بفعل نقص الإمدادات ونفاد الوقود وانقطاع الاتصالات وتنامي انعدام الأمن.
وانضم العاملون في المجال الإنساني إلى الغالبية الساحقة من المدنيين الغزيين الذين أُجْلُوا إلى جنوب غزة قبل انطلاق العمليات البرية، و"قُتل ما لا يقل عن 130 من زملائنا في وكالة الأونروا، وكثيرون منهم قُتلوا مع أُسرهم".
وأضاف: "إننا نواجه خطراً جسيماً يتمثل في انهيار المنظومة الإنسانية، فالحالة تشهد تدهوراً سريعاً إلى كارثة على كل الفلسطينيين وعلى السلام والأمن في المنطقة.،ويجب تفادي هذه النتيجة بأي ثمن".
ولأنه كان مقتنعاً تمام الاقتناع بأن الأمم المتحدة لن تتمكن من القيام بدورها لإنقاذ الشعب الفلسطيني وإعادة السلم والأمن في المنطقة إلا في ظل وقف تام لإطلاق النار، فقد طلب صراحة من مجلس الأمن أن يعمل على تحقيق هذا الهدف.
وقد انتهزت الإمارات، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تشغل حالياً أحد المقاعد غير الدائمة في مجلس الأمن، هذه الأجواء المشجعة للتقدم بمشروع قرار يدعو إلى "الوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وبامتثال جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية".
ورغم قيام 96 دولة عضواً في الأمم المتحدة بدعم هذا المشروع، وموافقة 13 عضواً في مجلس الأمن عليه، وامتناع بريطانيا عن التصويت، فإنَّ الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة في العالم التي صوتت ضده، ما أدى إلى سقوطه وعدم تبنيه.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ فأمام إصرار الولايات المتحدة على شلّ قدرة مجلس الأمن على الحركة والفعل، عادت القضية مرة أخرى إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت مرة أخرى في دورة طارئة، وتمكنت من اتخاذ قرار في 12 كانون الأول/ ديسمبر "يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار"، ولكن بأغلبية كبيرة جداً هذه المرة بلغت 153 دولة، أي بزيادة قدرها 33 دولة عن المرة السابقة، فيما رفضته 10 دول، وامتنعت عن التصويت عليه 23 دولة فقط.
هنا، أحسّت الولايات المتحدة بعزلة متزايدة، وقررت أن تستخدام تكتيكاً مختلفاً لإجهاض أي مشروع يعرض من جديد على مجلس الأمن، وذلك بإضعافه وإفراغه من مضمونه بدلاً من استخدام الفيتو ضده، وهذا هو ما حدث بالضبط عندما عادت القضية إلى التداول مرة أخرى أمام مجلس الأمن، فقد تضمن مشروع القرار الإماراتي هذه المرة نصاً يطالب بوقف القتال بين حماس و"إسرائيل"، وأيضاً بتشكيل "آلية أممية لمراقبة تدفق المعونات الإنسانية"، غير أن الولايات المتحدة أصرت على إجهاضهما معاً.
وبعد نجاحها في تأجيل التصويت على هذا المشروع ما لا يقل عن 10 مرات، دخلت في مفاوضات مع الإمارات لإدخال تعديلات إلى مشروعها أفرغته كلياً من مضمونه؛ فبعدما كان المشروع الأصلي ينص على "وقف العمليات العدائية"، أصبح في الصيغة التي طرحت للتصويت "تهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال العدائية".
وبعدما كان المشروع الأصلي يدعو إلى "تشكيل آلية من الأمم المتحدة لمراقبة توصيل المساعدات"، أصبح في الصيغة التي طرحت للتصويت "مطالبة الأمين العام بتعيين منسق كبير للشؤون الإنسانية يكون مسؤولاً عن التيسير والتنسيق والمراقبة والتحقق"، وهو نص فسره معظم المراقبين بأنه يعني تمكين "إسرائيل" من الإشراف على عملية إدخال المساعدات وفقاً لشروطها.
المذهل في الأمر أن هذه التعديلات الجذرية التي أفرغت مشروع القرار الأصلي من مضمونه كلياً لم تكن كافية لإقناع الولايات المتحدة على التصويت عليه، إذ قررت الامتناع عن التصويت، وهو الموقف نفسه الذي تبنته روسيا، ولكن لأسباب مختلفة.
هكذا تم تبني قرار مجلس الأمن رقم 2720 الخالي من الدسم تماماً بأغلبية 13 صوتاً، ما دفع مندوب روسيا الدائم لدى مجلس الأمن إلى التعليق عليه قائلاً: "إن هذه لحظة مأساوية بالنسبة إلى المجلس، وليست لحظة انتصار للدبلوماسية متعددة الأطراف، بل هي لحظة ابتزاز فاضح وغير مسبوق ومجرد من المبادئ، يعكس ازدراء واشنطن لمعاناة الفلسطينيين وآمالهم في أن يضع المجتمع الدولي حداً لكل هذا". ولاشك في أن جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن كانت تدرك أنه يستحيل على الأمم المتحدة إنقاذ الشعب الفلسطيني من الإبادة من دون الوقف الكامل لإطلاق النار.
لكل ما تقدم، لا أبالغ إذا قلت إن ما جرى في مجلس الأمن خلال الأسبوع الماضي كان وصمة عار في تاريخه، فقد سمح هذا الجهاز المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدولي للولايات المتحدة بأن تبتزه وبأن تنجح في وضع الشعب الفلسطيني في غزة، رغم أنف المجلس، تحت رحمة دولة محتلة يقودها نظام فصل عنصري؛ دولة تخيّر شعباً بأكمله بين الموت جوعاً أو الموت قتلاً، وهذه قمة الإهانة للمجتمع الدولي ولكل المؤسسات الدولية وللدبلوماسية متعددة الأطراف.
حسن نافعة