ولكن أنصار الله اليمنيين يصرون على أن الكيان العبري لن يتنفس ولن ينعم بالرخاء الأميركي عبر نافذة البحر الأحمر الإستراتيجية إلا بعد أن تتنفس غزة ويدخل إليها الغذاء والدواء بشكل يؤدي إلى رفع الحصار، إضافة إلى وقف الوحشية الإسرائيلية في الضفة، في إستراتيجية يمنية محكمة في الصياغة النظرية والعاطفية والفكرية، ولكنها أيضاً فاعلة في الميدان الحربي.
لم تكن المفاجأة في إطلاق هذه العمليات اليمنية ولا في الرد عليها أميركياً بالإعلان عنها من قلب "تل أبيب"، ولكن المفاجئ هو هذا النجاح اليمنيّ المبهر بما يشبه نجاح غزة في عبور السابع من أكتوبر، فاليمن المقسم بين حكومة إسلامية ثورية منظمة في صنعاء لا تحظى باعتراف دوليّ وحكومة مرتزقة في عدن ومأرب تحظى بهذا الاعتراف، رغم تشرذمها وضعفها وارتهانها للسعودي والإماراتي، هذا اليمن الموجوع بحرب عربية/ دولية ضده منذ سنوات، والبعيد عن فلسطين، يفاجئ العالم بأنه الأقرب إلى تحسس أوجاعها، والأقدر على نصرتها، وهو يقبض على واحد من شرايين حياة الكيان الإسرائيلي.
هل ثمة فرصة أمام هذه القوة الدولية لاحتواء العناد اليمني ونجدة "إسرائيل"، وهي قوة عملاقة تشكّلت من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا ودول أخرى كثيرة أعلنت عن نفسها، وأخرى توارت خجلاً من فرط الفضيحة، وكأن العالم بقده وقديده هرع ليعطي فرصة إضافية للكيان الإسرائيلي حتى يشبع وحشيته من أطفال غزة وأهل الضفة، ولكنه اليمن الحارس الطبيعي لأمواج البحر هو من أطلق للرياح الحمراء هزيعها، فأجبر كبريات شركات الشحن العالمية على تحويل مسارها نحو رأس الرجاء الصالح، بعيداً 20 يوماً للاستدارة حول أفريقيا.
بين أساطيل حارس الرخاء لنجدة "إسرائيل" وروح البحر الساكنة في ميناء الحديدة، تحاول مفاوضات تجري في عُمان أن تحتوي مواجهة محتملة، ولكن اليمني يرد على تشكيل هذه القوة بمزيد من التأكيد على الاستمرار في توجيه الضربات الصاروخية وإطلاق المسيّرات البحرية ضد السفن المخالفة، ومن قبلها وبعدها استهداف إيلات ومناطق حساسة في جنوب الكيان الإسرائيلي، فهذا بحسب تصريحات قادتهم ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، في تعبير ديني ثوري يعكس التركيبة العقائدية لأنصار الله.
إنه الرخاء الهش والمفتعل، حتى لو كان بحراسة فخر الصناعة الغربية، فكيف يصمد في مواجهة أمواج البحر، وهي تخرج من أعماقها غضب التاريخ وأشلاء الطفولة الممزقة صباحاً مساء في غزة العصية على الانكسار؟
ليس ثمة احتمال لنجاح هذه القوة الدولية في إعادة سفن العالم للإبحار في البحر الأحمر نحو إيلات لأسباب عديدة، أهمها:
التركيبة الفكرية والنفسية الصلبة لأنصار الله اليمنيين هي تركيبة مدعومة بقوة عسكرية صاروخية وبحرية متنامية، رغم أنها لا تقارن بالقوة الدولية بطبيعة الحال، ولكنها قادرة في أقل أحوالها على تنفيذ اختراقات ميدانية في البحر مهما كانت فعالية الحراسة الدولية، وهذه الاختراقات في حدها الأدنى كافية لتشكيل تهديد دائم للسفن التجارية المبحرة نحو إيلات، وهي ليست مضطرة إلى تعريض تجارتها للخطر، بما يدفعها إلى البحث عن حلول بعيدة عن ميدان مشتعل.
تمتُّع اليمنيين بمعرفة المنطقة وطبيعتها، فهم أهلها، بما يجعلهم أكثر مرونة ومناورة في الحركة، إضافةً إلى اعتمادهم على قطع بحرية صغيرة قادرة على تنفيذ تهديداتها، وبالتالي فإن قدرة القوة الدولية على إعاقة المسيرات والصواريخ المتجهة إلى السفن المخالفة ليست كافية ولا آمنة إلا بنسبة محدودة لا تكفي لهذا الرخاء الذي أطلقت أميركا شعاره النظري.
تشرذم الموقف الدولي والإقليمي في ظل تناقضات السياسة الإسرائيلية أمام طموح نتنياهو الشخصي في إطالة أمد الحرب، في وقت شددت غالبية دول العالم والإقليم على ضرورة وقفها، رغم حرص هذه القوى الدولية والإقليمية على أمن "إسرائيل"، بما فيها تلك التي توارت خجلاً أمام بعض حياء من شعوبها، وكلها متضامنة مع غزة، وتؤيد موقف اليمن الشجاع، كما تضحيات حزب الله وضربات المقاومة العراقية، في وقت تقف أميركا، ومعها كل هذا الاصطفاف، عاجزة عن ثني قوى المقاومة الداعمة للصمود الفلسطيني في وجه آلة الوحشية الإسرائيلية، بما يجعل قدرتها على مواجهة اليمني محدودة، وخصوصاً أن حكومة عدن لا تملك من أمرها السياسي والعسكري شيئاً.
وحساب السرايا ليس مثل حساب القرايا، كما يقول المثل الشعبي. لذا، فإن هذه القوى الدولية ستجد نفسها أمام معطيات واقعية تغلّب فيها الضغط على الكيان الإسرائيلي لوقف الحرب مقابل تجنب مواجهة بحرية دامية مع اليمن العنيد، وخصوصاً أمام استحقاق الأسرى الإسرائيليين الضاغط بقوة داخلياً وخارجياً، في ظل المتاهة التي يغرق فيها جيش الاحتلال في كثبان غزة، مع تراجع العالم عن دعم "إسرائيل" أمام طيشها الجنوني في قتل الآلاف من دون أدنى هامش عسكري، بما يرجح هشاشة دور هذه القوة الدولية وانكفاءها نحو هامش ثانوي لا قيمة إستراتيجية له.
محمد جرادات